استثمار الذكاء الاصطناعي في تحليل البيانات الضخمة داخل المؤسسات العلمية
#سفيربرس _ بغداد _ اعداد أ.د. هدى عباس قنبر

استثمار الذكاء الاصطناعي في تحليل البيانات الضخمة داخل المؤسسات العلمية
اعداد
أ.د. هدى عباس قنبر
كلية العلوم الإسلامية / جامعة بغداد / بغداد- العراق
يشهد العالم المعاصر تحولًا رقميًا جذريًا فرضته الثورة التكنولوجية، مما أتاح فرصًا واسعة أمام المؤسسات العلمية للاستفادة من تقنيات متقدمة، أبرزها الذكاء الاصطناعي والبيانات الضخمة. وقد أصبح استثمار هذه الأدوات ضرورة استراتيجية في بيئات التعليم العالي ومراكز البحث العلمي، وذلك لما لها من قدرة على تعزيز الابتكار المعرفي وتطوير منظومات إنتاج وإدارة البيانات والمعلومات.
ويعرف الذكاء الاصطناعي (Artificial Intelligence) بأنه فرع من علوم الحاسوب يهدف إلى إنشاء أنظمة تستطيع محاكاة الذكاء البشري في التفكير والتعلم واتخاذ القرارات، عن طريق تقنيات مثل التعلم الآلي والتعلم العميق ومعالجة اللغة الطبيعية. وتُوظف هذه القدرات لتمكين الأنظمة من فهم وتحليل البيانات واتخاذ إجراءات مستقلة دون تدخل بشري مباشر. والبيانات الضخمة (Big Data)، فهي مجموعات هائلة من البيانات التي تتسم بالحجم الكبير، والتنوع، والتدفق السريع، وتحتاج إلى أدوات تحليلية متقدمة لمعالجتها واستخلاص الأنماط والمعارف منها. واما المؤسسات العلمية (Scientific institutions) هي هيئات أكاديمية أو بحثية تهدف إلى إنتاج المعرفة ونشرها من خلال التعليم، والبحث العلمي، والتطوير. وتشمل الجامعات، والمعاهد العليا، ومراكز البحوث، والأكاديميات العلمية.
وتنقسم البيانات الضخمة في المؤسسات العلمية إلى عدة أنواع، من أبرزها: البيانات البنيوية مثل سجلات الموظفين والتدريسيين والطلاب والنتائج الأكاديمية؛ والبيانات غير البنيوية مثل النصوص الكاملة للبحوث والرسائل الجامعية؛ والبيانات شبه البنيوية مثل استجابات استطلاعات الرأي الإلكترونية؛ والبيانات التفاعلية الناتجة عن استخدام أنظمة إدارة التعلم أو منصات المكتبات الرقمية؛ فضلا إلى البيانات المستخرجة من وسائل التواصل الاجتماعي والمنصات التعليمية المفتوحة.
ويتعدد استخدام تطبيقات الذكاء الاصطناعي في المؤسسات العلمية، وتشمل مجالات عدة أبرزها: التنبؤ بمستوى أداء التدريسين والطلاب وتقديم الدعم الأكاديمي المخصص بناءً على تحليلات البيانات التعليمية؛ أنظمة الإرشاد الذكي التي توفر توصيات مخصصة للمساقات الدراسية أو مصادر التعلم؛ إدارة قواعد البيانات العلمية والمراجع بطريقة ذكية تتيح سهولة الوصول والتنقيب عن المعلومات؛ استخدام أدوات تحليل النصوص لاستكشاف الموضوعات البحثية الناشئة؛ وتطبيقات الفهرسة التلقائية والبحث الدلالي في المكتبات الرقمية.
ويساهم تكامل الذكاء الاصطناعي والبيانات الضخمة في دعم الابتكار المعرفي داخل المؤسسات العلمية، عن طريق تقديم رؤى عميقة قائمة على البيانات حول التوجهات البحثية الجديدة، وتحديد فجوات المعرفة، ودعم القرارات الاستراتيجية القائمة على تحليل شامل لسلوكيات الطلاب والباحثين. كما يُسهم في تصميم بيئات تعليمية أكثر تخصيصًا وتكيفًا مع احتياجات المتعلمين، ويوفر أدوات تحليلية تدعم تطوير المحتوى الأكاديمي، وتعزز التفاعل العلمي والتعاون البحثي بين الجامعات.
وعلاوة على ذلك، يساهم استثمار الذكاء الاصطناعي في تسريع وتيرة البحث العلمي من خلال أتمتة مراحل جمع البيانات وتحليلها، واقتراح الموضوعات البحثية بناءً على المعارف السابقة، وتحسين عمليات مراجعة الأدبيات وتصنيف الوثائق العلمية. كما تتيح الخوارزميات الذكية إمكانية استكشاف علاقات غير مرئية بين المتغيرات البحثية، مما يفتح آفاقًا واسعة للابتكار في صياغة الفرضيات والتصميمات المنهجية.
ومن جهة أخرى، فإن استخدام هذه التقنيات يفرض تحديات أخلاقية ومهنية تتعلق بخصوصية البيانات، وحيادية الخوارزميات، وضرورة تأهيل الموارد البشرية لاستخدام هذه الأدوات بفعالية. لذلك يتطلب الأمر من المؤسسات العلمية وضع سياسات واضحة لضبط الاستخدام المسؤول للذكاء الاصطناعي، وتوفير البنية التحتية التقنية والبيئة التنظيمية الداعمة.
وإن توظيف الذكاء الاصطناعي في تحليل البيانات الضخمة يمثل فرصة استراتيجية للمؤسسات العلمية لتحقيق نقلة نوعية في أدائها، ورفع كفاءتها البحثية والتعليمية، ودعم الابتكار المعرفي على أسس علمية دقيقة. ومن خلال هذا التكامل، يمكن رسم مستقبل جديد للمعرفة يستند إلى التحليل الذكي والقرار المبني على الأدلة، ويجعل من البيانات موردًا معرفيًا متجددًا يعزز جودة التعليم والبحث في البيئة الاكاديمية.
وفي ضوء ذلك، بات من الضروري أن تتبنى المؤسسات العلمية بما فيها الجامعات والمكتبات والمراكز البحثية رؤية استراتيجية تعتمد على الذكاء الاصطناعي كعنصر محوري في عملياتها اليومية والمستقبلية. ويشمل ذلك دمج أدوات التحليل الذكي في إدارة الأداء المؤسسي، وقياس المخرجات الأكاديمية، وتحليل التفاعل مع المصادر التعليمية، بما يُمكّن صناع القرار من الاستجابة الفعالة للتحديات، واتخاذ قرارات مبنية على الأدلة.
وكما يُعد الاستثمار في تطوير المهارات الرقمية والذكاء الاصطناعي لدى الموارد البشرية شرطًا أساسيًا لنجاح هذا التحول. فالتقنيات وحدها لا تكفي دون تمكين الأفراد من فهمها وتوظيفها في سياقاتهم البحثية والتعليمية. لذا، يُوصى بتضمين الذكاء الاصطناعي وتحليل البيانات ضمن المناهج الجامعية، وإعداد برامج تدريبية متخصصة، وتشجيع البحوث متعددة التخصصات التي تربط بين علوم الحاسوب، والمعلومات، والتربية.
في هذا السياق، نشير إلى قسم من الأمثلة التطبيقية الواقعية لاستثمار الذكاء الاصطناعي وتحليل البيانات الضخمة في المؤسسات العلمية: ففي الولايات المتحدة، تبنّت جامعة ولاية أريزونا (Arizona State University) في عام 2007 نظام (eAdvisor) القائم على الذكاء الاصطناعي لتحليل أداء الطلبة وتقديم توصيات ذكية لمساراتهم الأكاديمية، مما ساهم في رفع معدلات التخرج. وفي المملكة المتحدة، استخدمت جامعة كوفنتري(Coventry University) ميزة رؤى التفاعل (Engagement Insights) في منصة(Aula) في تشرين الثاني في 2021 في تحليلات البيانات لفهم سلوك الطلبة داخل البيئة الرقمية، مما ساعد في تصميم برامج دعم مخصصة وفعالة. وفي اليابان، طورت جامعة طوكيو(University of Tokyo) مشروع (Todai Robot) لتحليل أداء الطلاب باستخدام الذكاء الاصطناعي ومحاكاة اختبارات القبول الجامعي. وأما في الصين، اعتمدت جامعة تسينغهوا (Tsinghua University) على منصة(iFLYTEK) لتحليل بيانات التعلم وتقديم توصيات تعليمية مخصصة. وفي روسيا، تستخدم جامعة موسكو الحكومية (Moscow State University) أدوات تحليل ذكية ضمن مشروع (Digital University) لتحسين تجربة التعليم العالي ورفع كفاءة الأداء الأكاديمي.
وفي العالم العربي تشهد المؤسسات العلمية تطورًا ملحوظًا في توظيف تقنيات الذكاء الاصطناعي لتحليل البيانات الضخمة وتحسين مخرجات التعليم والبحث من خلال استخدام تقنيات وتطبيقات عدة خاصة بعد جائحة كورونا وما بعدها بهدف التواصل مع الطلبة وتقديم المحاضرات لهم وتحليل أداء الطلبة وتقديم الدعم المخصص لهم منها: Google Classroom و Moodle وEdmodo وMicrosoft Teams…الخ . ففي السعودية، اعدت جامعة الأميرة نورة بنت عبد الرحمن منصة (Blackboard) هي نظام إدارة تعلم إلكتروني متقدم يتيح للطلاب وللتدريسيين الوصول إلى المحتوى الدراسي والتفاعل مع المواد التعليمية. وفي الأردن اعدت كلية الملك عبد الله الثاني لتكنولوجيا المعلومات منصة التعلم الإلكتروني في الجامعة الأردنية (Moodle 10) هي نظام إدارة تعلم متقدم يهدف إلى تعزيز التعليم المدمج والتفاعلي باستخدام تقنيات المعلومات والاتصالات الحديثة. وأما في العراق، فقد أدخلت الجامعة التكنولوجية أنظمة تصحيح ذكية تعتمد على الذكاء الاصطناعي لتقييم الامتحانات الإلكترونية بدقة وشفافية، مما عزز كفاءة عملية التقييم الأكاديمي. وأخيرًا، وظفت جامعة الإمارات الذكاء الاصطناعي في تحليل البيانات البحثية والطبية باستخدام منصات تحليل متقدمة وأدوات تشخيص ذكية، الأمر الذي ساهم في تعزيز الابتكار ونشر الأبحاث بالتعاون مع الجهات الحكومية. وتعكس هذه الأمثلة توجهًا استراتيجيًا في العالم العربي نحو استثمار الذكاء الاصطناعي والبيانات الضخمة من خلال بنى رقمية متقدمة ومنصات تعليمية ذكية، لتطوير التعليم العالي وتحقيق التميز في البحث العلمي والمعرفي.
ومع استمرار تطور تقنيات الذكاء الاصطناعي وتوسع نطاق البيانات المتاحة، يتوقع أن تشهد المؤسسات العلمية تحولات نوعية في طريقة إنتاج المعرفة، وتوزيعها، وتخزينها، وتحليلها. وسيكون للذكاء الاصطناعي دور متعاظم في صياغة نماذج تعليمية جديدة أكثر مرونة وابتكارًا، قائمة على التعلم المخصص، والتقييم الذكي، والبحث المدعوم بالخوارزميات.
وبذلك، فإن استثمار الذكاء الاصطناعي في تحليل البيانات الضخمة لا يُعد ترفًا تقنيًا، بل هو مسار استراتيجي لتحقيق التميز المعرفي، وضمان استدامة التطوير الأكاديمي في عصر المعلومات المتسارعة. إنه جسر للعبور من ممارسات تقليدية إلى بيئات تعليمية وبحثية ديناميكية تستند إلى المعرفة المبنية على البيانات، وتستشرف المستقبل برؤية علمية متكاملة.
#سفيربرس _ بغداد _ اعداد أ.د. هدى عباس قنبر
كلية العلوم الإسلامية / جامعة بغداد / بغداد- العراق