إعلان
إعلان

احتاج النسيان يا أبي ..بقلم : ليلى صعب

#سفيربرس

إعلان

أحتاج النسيان يا أبي ..
الزهايمر كلمة مرت معي عشرات المرات، وانا التهم كل ما يصل الى يدي من ورق منذ تعلمت القراءة طفلة حتى الان. لافتات ،اغلفة المنتجات الغذائية، ورق الجرائد في الشارع ، لفافات القضامة الناعمة بورق المجلات الفنية ،النعوات ،عناوين الكتب المرصوفة باناقة خلف زجاج مكتبة والدي .
فهمت من هذه الكلمة أنها مرض ، وتخيلت المصابين به عجائز تجاوزن وتجاوزوا الثمانين ،واختاروا دون وعي منهم أن يتخففوا من عبء الحياة بالنسيان .
إلا أني لم أتخيل ذات يوم أن يكون لهذا الاسم وقع الصاعقة على قلبي وعقلي ،وأن يغير حياتي كلها .
كان ابي رجلا يقترب من الخمسين في مثل عمري اليوم ،مع فارق التجربة ، عجنته الحياة وعضته بنابها ، خاض اربع حروب كمقاتل على الجبهة وعشرات الحروب كإنسان ،حارب الطبيعة الصلدة القاسية الصحراوية كما حارب الجهل ليشق طريقه نحو النور؛من قلب بادية السويداء الشرقية بصخورها ورياحها ومغاورها وصولا الى دمشق العاصمة ، وخاض حربه مع الحياة وهو يفقد حبه الأول بسبب الفقر وسايكس بيكو ، لينخرط في معركة أزلية يخوضها الشرفاء ضد العوز والحاجة ،والانحلال .
لم يكن أبي انسانا عاديا على الأقل بالنسبة لي وهو يرتقي درجات الحياة القاسية ، يحصّل الشهادات العلمية، ويدفع عُشر راتبه كتباً وصحفاً ومجلات وورقا ًابيضاً يكتب عليه قصائده الحزينة ،ويربي أطفاله ويعلمهم ويتعلم كل أساليب الحساب كي يطعم الأفواه الجائعة دون أن يفقد كرامته أو مبادئه.
في اليوم الذي بدأ أبي فيه يفقد بعض مفردات اللغة التي طالما طاعت له ،وبدأ الصوت الذي علا مجلجلا على المنابر وفي المحافل الوطنية والاجتماعية وجلسات الأصدقاء ،يخبو ويغيب ، وبدأت أصابعه ترتعش فينسى رسم الحروف الانيقة التي اشتهر بجمالها ورشاقتها أينما خطهاعلى الورق غاب معه الأمل ،والرجاء ،وحل الليل حالكا
حبل من الرجاء قطعه أول طبيب ..(زهايمر شبابي …يصيب واحدا من 800 الف أنسان في مثل عمره ..)..وأناالتي كنت اعتقد أنه ضغط نفسي بسبب الظلم والفقر ..
حقيقة مرة .مرض أبي وأمضى سنواته القليلة بعدها صامتا والسؤال حائر على وجهه ونظراته التائهة تحرقني كل يوم …
انحرف المركب عن مساره وتغير طعم الحياة ولونها ..وعاد الى تراب قريتي القابعة على تخوم الصحراء جسدا منهكا ،وروحا شاردة في الافق.
كنت أخشى دائما هذا المرض وبات يمثل أكبر وساوسي …وأنا التي أحمل جينات أبي وأشبهه بكل شيء ..
خفت أن افقد الذاكرة ..واعيش الضياع بسبب مرض لايصيب إلا العظماء والأذكياء في العالم كما يقول العلم ،ولكني استيقظت على حقيقة مرة اكثر واكثر ..
يبدو أنني يا أبي أحتاج الى النسيان كي أتخفف من مرارة الجحود والنوايا الطيبة وكل ما نابني من نكران من كل الناس ..احتاج النسيان يا ابي كي أنسى طعم الخذلان والظلم ..
أحتاج النسيان يا ابي ..كي أنسى القيم والمثل والأخلاق التي ربينا عليها وتبين انها هباء منثورا ..
أحتاج النسيان يا أبي …كي أنسى الإباء والكبرياء ..ربما أستطيع أن أقول (يا ستنا …ويا سيدنا )فأفتح لي طريقا في عالم منافق ..
أحتاج النسيان يا أبي كي أنسى الإهمال وقلة الاهتمام.. والفراغ.
أحتاج النسيان كي أنسى مرارة الفقد ..وبعد الأحبة والشوق إليهم
أحتاج النسيان …كي أحذف من ذاكرتي مشهد وطني الذي مزقته الحراب ودمرته الحرب ..ثم اجهز الانتهازيون والوصوليون وتجار الحرب والدماء ..على ما بقي منه ..
أحتاج النسيان يا أبي كي انسى وجوه احبتي الشهداء وبسمة صياح وصالح ونضال ومهيب ،وكل الذين ذهبوا …وتركوا قلبي مشرعا للألم ..
أحتاج النسيان ..يا أبي ..كي أنسى دواوينك التي بقيت مخطوطة ..أازهار امي التي قتلها العطش ..
أحتاج النسيان …لم تعد وحشا أيها الزهايمر ..ربما كنت تسكن تلافيف مخي ولا أدري ..لكنك لم تعد تخيفني ..
أحتاج النسيان يا أبي …

# سفيربرس ـ بقلم : ليلى صعب

إعلان
إعلان

رئيس التحرير

محمود أحمد الجدوع: رئيس تحرير صحيفة سفير برس. صحيفة سورية إلكترونية، يديرها ويحررها فريق متطوع يضم نخبة من المثقفين العاملين في مجال الإعلام على مختلف أطيافه, وعلى امتداد مساحة الوطن العربي والعالم.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *