إعلان
إعلان

الجــــــثَّة ـ بقلم : د.إياس الخــــطيب

#سفيربرس

إعلان

لم تستطع نسماتُ ذلك المساء أن تغيّر من مزاجي العكر، ومهما اشتدتْ تلك الرّياح فإنّها لن تستطيعَ اختراقَ جسدي أو دغدغة جلدي الذي أشعرُ أنّه تعفّنَ منذ زمنٍ طويل، أسرقُ النظرَ بحرقةٍ إلى قدميَّ اللتين تحملاني وأشفقُ عليهما، كيفَ لهما أن يطيقاني وأنا الذي ما عدْتُ أطيقُ نفسي، أنظرُ إلى الأشياء حولي، لا طعمَ لها ولا رائحة، أو ربّما أنا الذي لم يعدْ لي رائحةٌ ولا طعم، ما ذنبُ هذه الأشياء لأتهمها، أذكرُ ما دوّنتَه ذات مرة عندما كتبت: “كل الأشياء حولينا بتحكي، بس المشكلة فينا يلي ما منعرف غير لغة وحدة!”
أشعرُ أني أضعْتُ لغتي، أضعْتُ منذ زمنٍ بعيدٍ هويتي، وأضحيْتُ خيالاً يرتسمُ على الجدران والأرصفة، لا نفعَ لي ولا منفعة، خسرْتُ أيّامي، وها أنا ألملمُ انكساراتي يوماً تلو يوم..
كانتِ الطريقُ تسيرُ تحتَ قدميَّ متجاهلةً وجودي هي الأخرى، قبل أن تصلَ بي إلى حافة تطلُّ على النهر، ذلك النهر الذي قصدْته، آه.. أطلقْتها في الهواء بحرقة، ستكونُ خلاصي أيّها النهر، قلْتها واقتربْتُ منه بخطواتٍ متثاقلة أجرُّ بها خيباتي التي ما فارقتني يوماً، سأقفُ الآنَ، سأغمضُ عينيَّ الغائرتين في وجهي، وسأطلقُ نفسي إلى الموت، أيّها الموت، كُنْ مستقبلاً لطيفاً لي ولا تخذلْني كما فعلَتْ بيَ الحياة!
تسمّرتْ قدماي، شعرْتُ بها تلتصق على حافة النهر لا تريد الخلاص، دقاتُ قلبي شعرْتُ بها عصفوراً يريد الإنعتاقَ من قفصِ صدري ليرى النور، قشعريرةٌ سرَتْ في عروقي، فتحْتُ عينيّ قليلاً ونظرْتُ للأسفل، ارتجفَتْ أوصالي، انتقضَ الدَّمُ من أخمصِ قدميّ إلى رأسي، قبل أن أطلقَ نفسي، لكن.. ليسَ إلى فمِ النهر، بل أقفلْتُ عائداً إلى الوراء، هرولْتُ وهرولت، وزدْتُ من سرعةِ خطواتي وكأنَّ أحداً ما يطاردُني، لحظاتٌ، وجدْتُ نفسي بعدَها مرميّاً على أحد الأرصفةِ كجثّةٍ هامدةٍ وقد هدّني التعب، جثّة! نعم.. جثة!! هنا لمعتِ الفكرةُ في رأسي، سأصنعُ من نفسي جثة، ولكن جثةً حيةً تراقبُ الأشياء، كم راقتْ لي الفكرة، سأرقبُ المارة، ترى ماذا ستكونُ ردّةُ فعلِهم تجاهَ هذه الجثة، أقصدُ تجاهي، يا لها من متعة ما بعدها متعة..
أغمضْتُ عيني، وحاولْتُ التظاهرَ بقطعِ أنفاسي، وكم كنْتُ سعيداً بوفاتي!
ما هي إلّا لحظاتٌ قليلةٌ حتى شعرْتُ بأقدامٍ بدأتْ تلتفُّ حولي، أقدامُ أطفالٍ لم يتجاوزوا العاشرةَ أو أكثر قليلاً من العمر، هكذا تراءى لي من أصواتهم المفعمةِ بالحياة، والضّحكِ واللعب، التفوا حولي وبدؤوا يلهونَ بي، شدوا شعري، حاولوا فتحَ عيني، أدخلوا أصابعَهم في منخري، فكوا حزامَ سروالي، صفعوني مرّاتٍ ومرّات، قبلَ أن يقفزَ أحدُهم ويقول: إنّه ميّت.. نعم، ميّتَ! ركضَ واختفى قبلَ أن يعودَ وبيده تلكَ المديةُ الحادّة، وكم كانتْ فرحةٌ الأطفالِ كبيرةً عندما بدؤوا بغرزِ السّكينَ في جسدي وخاصرتي، التقطتْ أذنيَّ ضحكاتهم وهم يرونَ الدّمَ ينزفُ من كلِّ موضعٍ يُدخلونَ المديةَ فيه، أمَّا أنا فقد حافظْتُ على تجلّدي وصبري، لن أكونَ أنانيّاً وأفسدَ فرحةَ الأطفال، أعرفُ أنّي ميّتٌ منذ زمن، زمنٍ بعيد، وليس لسكين الأطفالِ الآنَ أيُّ ذنبٍ في ذلك، آه.. أذكرُ طفولتي المعذبة، أذكرُ أنّي كنْتُ محروماً من أبسط الأشياء، أستطيعُ القولَ بالفمِ الملآن بأنّي كنتُ محروماً من شيءٍ اسمه طفولة، من ألعاب الأطفال، من عصافير الأطفال، وهدايا الأطفال، وحتى من متعةِ قتلِ رجلٍ على قيدِ الحياة مرمياً على رصيفٍ تحتَ شمسٍ تشرفُ على المغيبِ كما يفعلُ هؤلاء الأطفال الآن، ويا لسعادةِ هؤلاء الأطفال!
تابعوا ما بدؤوا فيه وازدادَتْ بقعُ الدَّم من حولي، قبلَ أن يتركوني على حالي ويذهبونَ مبتعدينَ برفقة ابتساماتهم التي ملأتْ وجوهَهم..
الشَّمسُ تدغدغُ وجهي محاولةً إيقاظي، لكنّي قرَّرْتُ متابعةَ اللّعبة، خاصّة عندما توقفتْ تلك السِّيارةُ بجانبي، وترجّلَ منها رجلٌ اقتربَ منّي وشعرْتُ به يتفحّصُ وجهي وجسدي بدهشة، وعلى الفور أخرجَ هاتفَه النقال وطلبَ من أحدِهم أن يجمعَ البقيّةَ ويأتون على عجل، دقائقٌ شهدَتْ بعدَها تجمّعاً التفُّ حولي، و لم يطلْ بيَ الأمرُ حتى علمْتُ بأنَّه طبيبٌ يدرِّسُ مادّةَ التشريحِ في إحدى الجامعات وها هو يجمعُ طلبتَه الآن ليشرحَ لهم درساً علمياً وعملياً وتشريحياً على هذه الجثّةِ المرميّةِ على الرَّصيف! كم كنْتُ فخوراً بنفسي عندما التفَّ هؤلاء حولي، وبدؤوا يقيمونَ التجاربَ عليَّ، أنصتُّ السَّمعَ إليهم، ولا أستطيعُ إخفاءَ إعجابي بطريقة تدريسِ هذا الدكتور لتلامذتِه، بل وفي لحظةٍ خاطفة سمحْتُ لنفسي بأن تتمنى أن أكونَ طالباً لديه، لكن آخٍ وآلفِ آخ وأنا المشرّدُ الذي لفظتني أبوابُ المدارسِ كالكلب الأجرب..
أنهى الدّكتور محاضرَتَه القيّمة عن جثّتي، صفقَّ له التلاميذُ بحرارةٍ وانصرفوا جميعاً..
شعرْتُ بحرارةِ الدّماء المحيطةِ بي، وبقلبي الذي بدأ ينتفضُ في جسدي بسرعةٍ زائدة، لكن ما هدَّأ من روعي هم طلبةُ التحقيق الجنائي الذين تسمّروا حولي وبدؤوا يتساءلون، أهيَ عمليّةُ انتحارٍ أم قتل؟! تكلّموا كثيراً حولَ حالتي، واستندوا إلى كثيرٍ من نظرياتِ القانون الجنائي وعلم التحقيق، لكنّهم لم يلتقوا عند نقطةٍ محدّدة، واحتفظَ كلٌّ منهم برأيه الخاص، قبلَ أن يتابعوا طريقَم مبتعدين..
كانتِ الشَّمس قد أسدلَتْ ستائرَها واختفَتْ، واللّيل بدأ يطبقُ قبضتيه، ومن الأمور الممتعة لهذا اليوم أيضاً، بأنّي سأصبحُ نجماً عالمياً مشهوراً، نعم.. نجمٌ عالمي، فبعد مغيبِ الشِّمس بقليل، قَدِمَ مخرجٌ وشاهدَني ممدّداً على هذا الرَّصيف، وكم كانتْ سعادتُه كبيرةً لهذا المشهد، قفزَ من الفرح، أحاطوني بالكاميرات والإضاءة والديكورات، وصوّروا مشهدَ الرّجل المقتول الذين هم بحاجةِ إليه، وانصرفوا والفرحة تثلجُ صدورَهم، فهذا المشهدُ يحملُ من الواقعية والمنطقيّة الشّيءَ الكثيرَ على حدِّ تعبيرِهم، وأنا أوافقهم موافقةً كاملةً على ذلك، أنهوا عملَهم وانصرفوا قاصدينَ أحدَ أفخمِ مطاعمِ المدينةِ للإحتفال بهذا اليوم الجميل..
بصراحة، إنّه يومي، لا أستطيعُ وصفَ سعادتي وأنا أهبُ الفرحَ للأطفال، والعلمَ للتلاميذ، والتشويقَ لأصحاب البحثِ والتحقيق، والشهرةَ الذي سيكسبُها ذلك المخرجُ بسببي و..
قطعَ شرودي هذا إحساسٌ بإيدٍ تقبضُ على جسدي بقوَّةٍ، قبلَ أن تحملَني وتقذفَني في سيّارةٍ، علمْتُ من حديثِ الرَّجلين بأنّها سيّارةُ إسعاف، انطلقوا بي، وبعدَ مسيرِ عشرين دقيقةٍ تقريباً وجدْتُ نفسي بصحبتِهم في تلك المَقبرةِ المعتمة، اللَّيلُ الحالكُ سالَ على كاملِ المدينة، وبعدَ انتظارٍ لم يطُلْ عَلِمْتُ من الحديثِ الذي دارَ بينهما بأنّهما قرّرا فقئَ عينيَّ وبيعَهما فيما بعد وكم سيدرُّ هذا العملُ عليهما من المالِ الوفير.. لحظاتٌ سريعةٌ أضحيتُ بعدها بلا عينين، وكم كانت مهارتُهم عالية في مهنتِهم هذه، فقد قاموا بمهمّتهم بسرعةٍ فائقةٍ وخفّةٍ ورشاقة، ثمَّ صعدوا سيّارة الإسعاف بصحبة عينيّ وانصرفوا، بينما بقيْتُ أنا ممدّداً في هذه المقبرة..
أنا إنسان، نعم.. إنسان، وهبْتُ الفرحَ للآخرين، ووهبْتُ المالَ للآخرين، وهبْتُ الشُّهرةَ للآخرين، آهٍ.. يا إلهي ما أحلى الحياة، شعرْتُ بقيمتي وبأهميّةِ وجودي، بالفرح الذي أستطيعُ سكبَه وغرسَه في نفوسِ الآخرين، مددْتُ يدي باتجاه السَّماءِ أطلبُ الحياةَ، بينما اتكأتُ على يدي الأخرى كي أنهض، قبلَ أن أشعرَ بتلكَ الأنياب التي بدأتْ تنغرسُ في يدي، وأنيابٍ أخرى انغرسَتْ في ساقي لأشعر بها تلتهمُ كُلَّ مكانٍ في جسدي، وشعرْتُ بتلك الضّباع التي راحتْ تنهشُني من كُلِّ صوب، حاولْتُ الإمساكَ بحبلِ الحياةِ والنَّجاةِ مجدداً فلم أنجح، يا الله كم أشعرُ بأنِّي بحاجةٍ إلى الحياة الآن، حاولْتُ القبضَ على صدري كي لا تخرجَ الرُّوح، حاولْتُ التشبّثَ أكثر فأكثر، شعرْتُ بروحي بدأتْ تنفلتُ من بين أصابعي، حاولْتُ جاهداً الإمساكَ بها، بينما الأنيابُ تنتزعُ بقايايَ الأخيرة، وفي هذه اللحظات أحسَسْتُ بروحي بدأتْ تغادرُ جسدي، وتطير متسربلةً من بين أصابعي بهدوء، ورويداً رويداً.. نحوَ السَّماء!.

# سفيربرس ـ بقلم : إياس الخطيب

إعلان
إعلان

رئيس التحرير

محمود أحمد الجدوع: رئيس تحرير صحيفة سفير برس. صحيفة سورية إلكترونية، يديرها ويحررها فريق متطوع يضم نخبة من المثقفين العاملين في مجال الإعلام على مختلف أطيافه, وعلى امتداد مساحة الوطن العربي والعالم.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *