إعلان
إعلان

في حضرة حديث صحفي مع يزيد جرجوس لسفير برس:   طفولتي كانت سعيا نحو الاعتراف.. القومية العربية عابرة..والقوميون العرب يعتبرون الإسلام والمسيحية جزءا من الشخصية العربية.. وهذا أخطر أعداء الرجل..

#سفير_برس _إعداد وحوار: هبة عبد القادر الكل

إعلان

يقهر اليأس ليس لأنّه متفائل ولكن.. لأنّه كثير العمل، فالإنسان يشبه نفسه كما يقول.

لا تحسبنّ الكتابة في السياسة والاجتماع مطلباً سهلاً يرام، وأن تكتب لنخبة أو عامة لهو أمر مقدور، أما إنزالهما بمنزل الواحد فهو على الكاتب بمنظور، ومن يقرأ ليزيد يُدرك ما أعنيه وذلك لأنّ العلم والتعلم هما الجامع بين النخبة والعامة، وما يقدّمه ما هو إلا محاولة لاستثارة العقول الكامنة وبعْث للنفوس الراكدة.

نقدَ السلطة والثورة، الموالاة والمعارضة، الديمقراطية والتطرف الديني ليحمل هموم الوطن وآلام الشعب… واثق هادئ لا يعبء بآراء المادحين ولا الذّامّين، فاستوى عنده من أحسن وأجاد ومن أخطأ وأساء..  

ضيف حوار اليوم، يزيد بونسو جرجوس، كاتب سياسي وباحث في الاجتماع والفكر والأدب والدّين، له كتابان: “مصابيح وظلال 2022م” و”في الاجتماع السياسي 2023م”.

كتب في عدّة مواقع وصحف سورية محلية وعربية، منها: صحيفة تشرين، جريدة الخليج الإماراتية، جريدة حمص، صحيفة رأي اليوم اللندنية، صحيفة الوسط، موقع سيرجيل وغيرها من الصحف والمواقع. 

أطلق ونفّذ العديد من البرامج الثقافية، وهو مؤسس الملتقى الثقافي اليسوعي 

ومديره لمدة 8 سنوات، وله العديد من المبادرات المجتمعية والشبابية، كما أنه ألّف وأنتج الفيلم الوثائقي “أبو عرب” عام 2023م.

وإليكم أعزائي القرّاء نصّ الحوار:

س- البداية معك أستاذ يزيد، ماذا يعني الحوار لكَ؟

بداية أشكركِ على اللقاء، وأُحييكِ على جهدك الكبير، فبعد متابعتي لبعض المواد والحوارات التي أجريتها مع مفكرين من العالم العربي، لمستُ كمية الجهد البانورامية والكبيرة التي تبذلينها، مما يدل على اهتمامك بالتفاصيل وقدرتك على طرح الأسئلة في كل الاتجاهات. 

بالعودة إلى سؤالك: الحوار فرصة لإنتاج أفكار جديدة، قوة الهجين، عندما يتحاور رأيان ينتج رأي آخر جديد أقوى وأكثر شمولية من الرأيين المتحاورين.  

****

س- لنبدأ بمرحلة الطفولة؟

ولدتُ في صافيتا وعشتُ فيها ثلاث سنوات ثم انتقلتُ إلى حمص، ولم يكن هذا الانتقال ابتعاداً عن صافيتا لأنني أبقيت على زيارات دائمة لصافيتا لاسيما وفي الصيف، فصافيتا تحتل الموقع الأعمق في القلب، ثم حمص فسوريا.

وما أتوقعه مُهمّاً في طفولتي وأتمنى أن تكون عبرةً تصل كدرس تعلمته وأن يُعمّم وهو “الرغبة في الحصول على الاعتراف”. عندما كان عمري حوالي الثالثة عشر حصلت معي حادثة تزامنا مع انتفاضة فلسطين الأولى “انتفاضة الحجارة”، وقتها كتبت شعرا يعبّر عن وجدان طفل أقرب إلى محاولة شعرية بسيطة، وذهبت إلى والدي وطلبت منه الاستماع إلى ما كتبته، كانت ردة فعله: “اذهب واقرأ”، غير معترفا بما كتبته. وقتها وهنا العبرة، شعرتُ أن الوالد لم يدعمني، ولكن وبعد عقود أدركتُ وعبر التحليل النفسي أنه قدّم لي خدمة كبيرة بأن دفعني لمحاولة إثبات نفسي أمامه أولا وأمام المجتمع تاليا، والسعي نحو الاعتراف.

نشأتُ في بيت معرفي يحوي آلاف الكتب، والدي لديه شغف رهيب  بالقراءة والكتابة والترجمة.

****

س- مَن دعم يزيد في تلك الفترة نحو التوجه الفكري والأدبي؟

لا أذكر أحداً دعمني بقدر ما كنت “أنا” أتعلّم، ولكن أتذكر الكثير من الأشخاص والأساتذة في حياتي الذين كنت أسْتلهم منهم ولو أنهم لم يقصدوا تعليمي، بدءا من الوالد والشخصيات السياسية، وحتى أصدقاء الوالد السياسيين والأدباء، فالوالد كان حزبياً، وكانت تجري في منزلنا لقاءات حزبية لمختلف الأحزاب في سوريا وحتى الفلسطينين كانوا يأتون إلى منزلنا، وكنت أذهبُ مع الوالد أيضاً عدة مرات، منها إلى المُخيم في حمص ومخيم اليرموك بدمشق والمركز الثقافي. هذه طريقة للدعم، فعندما يصطحبني معه إلى لقاء سياسي أو أدبي، ويختار لي أنواع الموسيقى التي أسمعها والكتب التي أقرأها، فهذا دعم غير مباشر ولو لم يكن متابعاً، فكان يترك لي مهمة المتابعة ولم يفرض عليّ شيئاً، ولم يدعم ما أقوم به ولكن كان ينتظر المزيد. بتصوري كانت نقطة مهمة التي جعلتني أبذل المزيد من الجهد.

****

س- لاحظتُ ومن خلال تصفحي لصفحتك على الفيس بوك أن هنالك نقلة نوعية حصلت قبل الأحداث عندما كنت مغتربا في الإمارات وبين عودتك إلى سوريا مع بداية الأزمة السورية؟

 في يوم من الأيام قلتُ مقولة أمام الكثير من الأشخاص وأمام أحد المعنيين بها ولكن لم أكتبها ولم أنشرها، وسأقولها ولأول مرة أمام الناس أن هناك أمرين غيّروا حياتي بشكل كبير جداً ولا أقول بشكل جذري لأن حياتي كانت تراكمية، ولم أُبدّل اتجاهي ولكن في محل قمتُ بقفزة كبيرة، الأمران هما: الحرب والقس رياض جرجور الذي أوجه له تحية كبيرة، وأنا مدين له بآفاق رحبة فتحها أمامي، خاصة في مجال الدورات والتنمية والتأهيل. أمّا الحرب فقد فرضت نفسها علينا، وكل إنسان واجه الحرب حسب انتماءاته وخلفيته المعرفية والثقافية والاجتماعية. 

قبل الحرب كنا نعيش حياة هادئة مرتاحة، لم يكن لدينا هذا الهاجس الكبير كي نحقق شيئاً، ومن هذه الزاوية أرى أنّ الحرب كانت مفيدة في تحفيز الكثير من الطاقات السورية في بذل جهد كبير لمواجهتها ومواجهة آثارها. وبتصوري كان للحرب أثر كبير عليّ شخصياً وهي العنصر الحاسم التي نمّت الإحساس بالمسؤولية تجاهها ونقلتني هذه النقلة التي لاحظتيها، وأحييك على ذلك لأنه ليس من السهل على أحد أن يراقب مسيرة شخص عن طريق المنشورات والصور ويستنتج هذا الاستنناج.  

****

س- هل ثمة صعوبات واجهتك عندما كنت في الغربة، ولم قررت العودة إلى سوريا وقت الحرب؟

لا يمكنني أن أتكلّم عن صعوبات جمّة، ولا أدّعي المعاناة كباقي الشباب السوريين الذين يبدأون من نقطة الصفر، فطريقي كان مُمهّداً، حيث كان شقيقي مقيماً في الإمارات وكان لدينا عمل هناك. 

العشر سنوات التي عشتها في الإمارات شكّلت كثيرا من شخصيتي وخلفيتي المعرفية، فكنت أركّز على القراءة والكتابة. منذ سنتين  نشرت أنه بلغ عمري 48 عاماً وألف كتاب، هذه الألف قرأتها في الإمارات تقريبا، لأنّ العمل كان منظماً والوقت متاحاً، وبالطبع أن اليوم مستمر بالقراءة ولكن ليس بنفس الزخم. وفي الإمارات أعددتُ أرشيفاً ضخماً حول مواد ومراجع وتوثيقات لأحداث سياسية ودراسات عن شخصيات معينة كالرئيس الراحل حافظ الأسد، ياسر عرفات، جمال عبد الناصر وصدام حسين، ودراسات أخرى حول السياسة الأمريكية والسياسة الغربية والسياسة السورية، والاقتصاد السوري.. كل هذه العناوين وغيرها عندي لها أرشيف. 

بدأتُ أنشر بشكل دوري وأنا في الإمارات، في عام 2001م بدأت بالكتابة في جريدة تشرين السورية، وجريدة الخليج الإماراتية والتي تعتبر من أهم الصحف على مستوى العالم العربي، لم يكن هناك صعوبات في النشر وكانت مقالاتي تنشر في الخليج وتشرين.

بالنسبة لقرار العودة إلى سوريا، حقيقة مثلي كمثل الكثير من الشباب هنا في حمص تحديداً، كان قرار العودة إلى سوريا عام 2010م لأننا رأينا أن البلد أصبحت متقدّمة، فسوريا في ذلك الوقت كانت تصعد بطريقة جيدة ومتنوعة على صعيد المعرفة والاقتصاد والفن والدراما والمسرح، فشعرنا أن الوقت مناسب للعودة إليها.

****

س- على ذكر صحيفة تشرين، توقفتَ عن الكتابة فيها على إثر الأحداث، وتعزو السبب إلى ضيق المناورة في الرأي في ذلك الوقت، هل لا يزال الضيق موجودا اليوم؟  

حقيقة لا يوجد اليوم تواصل بيني وبين صحيفة تشرين، وليس لديّ أي فكرة عنها وعن الوضع الحالي. آخر مرة أرسلتُ لهم مقالاً عام 2015م، وحصل نقاش بيني وبين أحد المسؤولين في الصحيفة ونتيجة لهذا النقاش قررتُ أن أتوقف عن إرسال مقالات لها، ولكن قبل ذلك كانت هناك إرهاصات، منها: مقالات لا تنشر أو يطلبون تعديلات كبيرة عليها، بالرغم من أنه قبل الحرب كنتُ أقول أن جريدة تشرين هي دُرّة الإعلام السوري، لم يسبق قبل الحرب أن تتعرض مقالاتي لحذف جزئي أو تغيير في عنوان، في وقت كانت جريدة الخليج تحذف نصف المقال أحيانا أو تغير العنوان، لذلك كنتُ مرتاحاً في التعامل معها وأهواها وما زلتُ لأنها إعلام وطني وأنا أحبه، وإنما اتخذت الموقف لأنه ضاق الأفق. 

أتفهم موقف الكادر الإداري في وزارة الإعلام والصحف تحديدا بسبب  ضغط الحرب والهجوم الإعلامي المركز عليهم وعلى سوريا سابقا، الأمر الذي يسبب إرباكاً وحذراً وصل إلى درجة حذر مبالغ فيه أحياناً، على أن هذا الشيء لا يمكننا التكلم عنه وآخر يمكننا التكلم فيه، أنا أزعم أننا نتسطيع أن نتكلم في كل شيء ولكن أن نعرف كيف نتكلم.

****

 س- وماذا عن الإعلام السوري اليوم حول التضييق على الرأي؟

لا تضييق، بشكل عام تعتبر وسائل التواصل الاجتماعي الوسط الإعلامي الأول، وأرى أن كل الآراء مطروحة ويتصدر المشهد الرأي المحترم. ولكن أتصوّر أن الإعلام الرسمي لديه بعض من المحاذير نتيجة مشاكل إدارية، ومع ذلك القنوات السورية لديها هامش من الحرية، تستضيف شخصيات وتمارس دوراً واضحاً من النقد والرقابة  أكثر من جريدة تشرين التي أعرفها سابقا ولكن من الممكن اليوم أن تكون بعض الأمور قد تغيرت. 

قد يستغرب بعض المتابعين من الكلام الذي أقوله، والناس أساسا لم تعد تتابع التلفزيون السوري بسبب ظروف الكهرباء، وبسبب فكرة مسبقة عن الإعلام السوري أنه لا يقدّم الحقائق وأوجاعنا، ولكن من يتابع القنوات السورية الرسمية سيجد أن هناك مساحات كبيرة تهتم بالشؤون المعيشية للناس وتنقد وتتكلّم عن كل المواضيع، فالأوضاع المعيشية مطروحة على الإعلام السورية، ولكن قد لا يجد المتابع الحلول لأن الإعلام ليست وظيفته أن يُقدّم حلولاً، ولكن على الأقل يُسلّط الضوء، وأحياناً أشعر بشيء من المبالغة، فمثلا عندما يستضيف الإعلامي مسؤولاً أو وزيراً ويقسو عليه بالأسئلة، ربما يظن بعض الإعلاميين أنهم يقومون عبر ذلك بدور الرقابة.   

****

س- تقول في مصابيح وظلال: “تكمن مهنية الإعلام في إحسانه للانحياز”. كيف يتحقق الانحياز بعيداً عن التّطرف الإعلامي؟

أنا أقول حقيقة علمية فلا يوجد إعلام حياديّ، ما مصدر هذا الإعلام الحيادي؟ هل هو من كوكب آخر مثلا؟ الإعلام هو ابن مؤسسة وطنية أو خاصة لا بد أنه يسعى وحسب خلفيته لدعم وجهة نظر معينة. من العبث أن نبحث عن إعلام حيادي، الإعلام يجب أن يكون مهنياً، ولكن عندما أُقصي الرأي الآخر من الإعلام حول قضية أكون هنا غير محسن في الانحياز، وبالمقابل عندما استضيف الآراء الأخرى بنسبة معقولة من الوقت وأفنّدها هنا أكون قد أحسنتُ الانحياز وخدمتُ وجهة نظري بطريقة علمية وطريقة تدعو لمتابعتي من قبل الإعلام، لأنّ الإعلام عندما يتكلم في مادّة كي يتابعه الناس المؤمنة بكلامه وفقط فهو لا يُقدّم شيئاً، لأنّه ومن المفترض أن يخاطب الإعلام الشريحة الأخرى وإلا ما الفائدة من الإعلام إذا خاطب نفسه. هذا مثال، وأيضا نحسن الانحياز بالصورة عبر الصورة والشكل والمهنية وعناصر الجذب من مونتاج وإخراج وموسيقى تصويرية وذكاء وحنكة…

****

س- تناولت الوعي في الاجتماع السياسي وحتى في مقالاتك، وتقول: “ليس مهمة الباحثين السياسيين رفع معنويات الأمة وإنما حماية وعيها”. ما الوعي المطلوب حمايته اليوم؟ 

وعي الجمهور والأمة تجاه قضاياها، تجاه مصيرها ونفسها، تقييم الذات. عندما أطرح هذه الفكرة فلأنني أخشى على وعي الأمة والشعب تجاه قضيته، وذلك لأنّ طرح المفاهيم بطريقة مغلوطة أو إيهام الجمهور بأمور معينة لا تطابق الواقع قد يكون هذا الأمر مُهمة خطيب تعبوي، أما الباحث فمهمته مختلفة تماماً، مهمته أن يحافظ على وعي الأمة تجاه القضية التي يتحدث عنها ويتصدى لها لأنه وعلى سبيل المثال عندما أصوّر للجمهور انتصاراً معيناً ثم تأتي الأحداث لتثبت أنه لا يوجد انتصار، فالجمهور سيُصدم ويفقد إيمانه بالقضية، فمثلاً: حرب الأيام الستة عام 1967م، كان البعض وأثناء سير المعارك يقوم بإيهام الجمهور أن العدو يتقهقر وإسقاط طائراته وما إلى ذلك، ولكن وبعد ستة أيام انقشع الضباب على هزيمة، وفقدَت شريحة كبيرة من الناس إيمانها بالقضية وبالعروبة، إيمانها بدولها وقياداتها، بالرغم من وجود دول وقيادات ضعيفة ومتآمرة ولكن هذا لا يضر بالقضية، وبالرغم من ذلك كان هنالك أشخاص يُنبّهون على ذلك هؤلاء كانوا حريصين على وعي الأمة.

إنّ الانكسارات  كانكسار 67 أو عاصفة الصحراء 1991م والتي هي حرب العراق وتحرير الكويت، أو احتلال العراق 2003م، تعطي جرعة وقود لحرق الهوية القومية، وتكفر الناس بهويتها، فعلى هامش الانكسارات تتضعضع المفاهيم الكبرى ومنها الهوية والانتماء والقومية، فهذه المهمة التي أريد من الباحثين والمفكرين ومن يزعمون أنهم كذلك أن يتصدوا لها، وهذا أهم من الترويج لأفكار معينة رغم أنّه حق.

****

س- تقول في “الاجتماع السياسي”: إنّ القيم هي المؤلفة للوعي؟

هنا أتكلم عن القيم الجامعة التي كانت سمة عصر الحداثة وما قبلها، ومنها الدولة الحديثة وهي قيمة جامعة. القيم الجامعة كانت في كل المستويات، العلوم، الثقافة، الفن، المجتمع.. 

عصر ما بعد الحداثة والذي أهم وسائله اليوم هي وسائل التواصل الاجتماعي لديها قدرة على فرط الرأي العام وتفكيك المفاهيم العامة، فمثلا وللمقارنة: يخرج الراحل حسنين هيكل ويتكلّم، فيخرج اثنان أو عشرة من العالم العربي لديهم من الكفاءة والقيمة على مناقشته، يكتب هيكل مقالا في جريدة الأهرام فيرد عليه أحدهم في تشرين، لكن لو كتب اليوم فكرة فسيخرج له مليار شخص للرد عليه سواء كانت لديهم القدرة المعرفية أو لا. 

ربما هذا الأمر  ليس خطأً ولستُ في موقع تقييم، ولكن زمن الحداثة وما قبله كان يحوي عناوين جامعة وأمور متفق عليها، لتأتي ما بعد الحداثة وتكسر فضاء المدينة كما يقول أحد المفكرين.

أنا شخص أميل إلى زمن الحداثة أكثر وإلى القيم الجامعة ولكن لا أجزم بصحة ميلي، فصيرورة التاريخ ودراسة الشعوب والأجيال هي التي تثبت فيما بعد من الأفضل، هل زمن العناوين الجامعة أفضل أم زمن تكسيرها. قد يكون لبعض العناوين الجامعة بدّ من تكسيرها وتغييرها بمقابل وجود عناوين كان لا بدّ لنا من المحافظة عليها.

****

س- إذا أردنا التكلم عن زمن ما بعد بعد الحداثة هل ترى فيه البعد الخامس للأرض المطروح نظريا وعودة الوعي إلى القيم الروحية، أم ترى فيه نهاية التاريخ والإنسان الأخير؟

 

في كتابي “حروب اللاوعي” وهو قيد الطباعة، أتطرق وبشكل تفصيلي إلى كتاب نهاية التاريخ لفرانسيس فوكوياما، وطبعا لا أوافق على هذا الطرح، وهو طرح موجّه، وهنا تكمن ملاحظتي على أطروحات غربية التي تؤخذ وكأنها مرجعية علمية نظرية وهي في الحقيقة تنظيرية، كما تحدث “هنتجتون” عن صراع الحضارات وتوقعه بين قوسين “أن الحضارة الإسلامية ستبقى على صراع مع الحضارة العالمية”، ونموذج النيوليبرالي لفوكوياما هو نهاية التاريخ، هذا يختلف عمن يطرح النظرية الواقعية أو التحليلية… هذا برأيي تنظير، توجيه يحاول الترويج لوجهة نظر سياسية غربية، وهي تقدّم إلى شعوبنا والشعوب المستضعفة في الشرق والجنوب على مدى قرون، وأرى اليوم أن هذه الشعوب بدأت تخطو خارج قفص الاستغلال والتبعية.

ما بعد بعد الحداثة هي مقولة افتراضية لحد الآن، ولكن لا بد من أنها ستحدث لأن هيجل وجدليته منطقية جداً فعندما يقول أن هنالك أطروحة ونقيضها يتجادلان فالنتيجة هي أطروحة جديدة وهذا يعود بنا إلى المقدمة في سؤال الحوار، هذه الأطروحة الجديدة ستبحث مجدداً عن نقيض لها وتتجادل معه لتنتج أطروحة ثالثة، فما بعد الحداثة كانت نتيجة جدال الحداثة مع المعترضين عليها، وفي كل المجالات الأدب، الرواية والسياسة، لأن طبيعة الدماغ البشري متنوعة، وطبيعة الناس متنوعة الآراء ووجهات النظر نتيجة الظروف والحياة والتأثيرات، وهذا أمر مهم جداً على صانع القرار أن يدركه في أي بلد بالعالم، فالرأي يتشكل بشكل موضوعي لا يوجد شخص يختار رأيه، فرأيه يتشكل بطريقة لا واعية، ووجود تنوع في الأفكار سينتج حُكماً رأياً مختلفاً عما بعد الحداثة، فصراع ما بعد الحداثة مع المعترضين عليها سينتج زمن ما بعد بعد الحداثة، على مر التاريخ البشري هذه الجدلية التي وصفها هيجل ولم يخترعها تسير منذ بدء التاريخ.

****

س- تحدّثتَ عن الأُمّة السورية في مقال لك بعنوان “سؤال الهوية العربية السورية، طرح لا بد منه”، واستشهدت على وجود الأمة السورية بوجود عربي قديم قبل الميلاد فيما يسمى بسوريا الكبرى. هل الوجود العربي في ذلك الوقت يعتبر دليلا كافيا لإثبات وجود أمة سورية، وإن كانت هناك أمة سورية فتحت أي حكم كان؟

فكرة الأُمّة السورية لا أعتقد بوجودها، وعلماء التاريخ لم يذكروا اسم سوريا كدولة قبل عام 1920م، ولكن هذا لا ينفي وجود خصائص لهوية سورية التي تكلّم عنها أنطوان سعادة، ولكن عندما نتكلم عن خصائص الهوية المحلية لإقليم جغرافي، فهذا الأمر لا يصنع حضارة ولا أُمة ولا دولة، على سبيل المثال ولأبسّط الأمور: اليوم في شخصية دمشقية، شخصية حلبية وحمصية وبشكل واضح، هل هذا معناه أن يأتي من يقول يوماً: نحن في حمص أُمة متكاملة لسنا على علاقة بالمحيط، ويستشهد بأن حمص مذكورة بأحد الكتب منذ آلاف السنين! هذا لا يُشكّل هوية ولا انتماء سياسي ولا يشكل حضارة، الحضارة أوسع من ذلك بكثير ونحن ننظر إلى العروبة كحضارة، الحضارة لا تحتوي حدوداً فاصلة، فمثلا العرب اليوم المقيمون على الحدود بالأهواز والأهوار بين العراق وإيران، لهم شكل الشعبين ويتكلمون لغتين وربما لديهم مشاعر تجاه الطرفين، فلا يوجد خط فاصل قطعي بين الشعوب والحضارات، المواطن الفلسطيني الساكن في رفح يمتلك لهجة وسطية بين اللهجة الفلسطينية والمصرية، وشكله وربما مشاعره، فلا يمكن أن نفصل هنا وبشكل قاطع. العلاقة بين الحضارات والشعوب المتجاورة علاقة تماوجية، وحتى بين الشعوب والحضارات المتعاقبة هناك علاقة تماوجية.

في لحظة تاريخية بين قبل وبعد، يحمل الإنسان فيها صفات ما قبل وما بعد، ومع الأيام يتغير ويصبح في المرحلة التي بعدها، وأتحفّظ على طرح الهويات المتراكمة في الإقليم الذي نسمّيه سوريا الطبيعية أو سوريا الكبرى أو بلاد الشام لا مشكلة في التسمية، على أن هذه الهويات الحضارية المتراكمة في الإقليم هي التي أنتجت العروبة، وأنتجت الحضارة العربية، وأحزن كثيراً عندما أجد من يستحضر تلك الحضارات المتراكمة بطريقة غرائزية ويطرحها بطريقة ضد الواقع الذي نحن فيه أو ضد المرحلة العربية، ولا أنكر وجود أيادي مشبوهة بمقابل وجود أيادي بريئة تفتقر إلى مزيد من المعرفة والحكمة لقراءة المشهد.

عندما أقرأ لعلماء التاريخ كلهم لا يمكن أن تجدي عالم تاريخ يتمشكل مع الحضارة العربية، لكن من الممكن أن تجدي فنانا سوريا يتمشكل مع الحضارة العربية، هذا الفنان السوري من الممكن أن أسمع له وأنصت عندما يتكلم عن الفن أما ذخيرته المعرفية لا تقارن بفراس السواح مثلا، السواح أسمع له عندما يتكلم عن الحضارة والتاريخ.

من هنا ألحظ وجوداً واضحاً جداً لخصائص الهوية السورية، ككلامنا عن حوض النيل، المغرب العربي، وبالنسبة لنا كعرب في بلاد الشام نشعر أن هناك تشابها مع كل شعوب المغرب العربي رغم أنهم ليسوا دولة أو شعبا واحدا، وإنما توجد صفة عامة للمغرب العربي والخليج العربي وبلاد الشام من ناحية اللباس والحديث واللهجة.

****

  س- هناك مداخلة من الكاتب والأديب السوري أكثم علي ديب يقول فيها: الدولة السورية أقدم ﺑ 3000 آلاف سنة من التاريخ الذي طرحته؟

أتمنى أن يطرح بنفسه عن أي دولة يتكلم، هناك من يقول أن الآراميين شكّلوا دولة سورية، ولكن هم لم يشكلوا دولة وإنما هم شعب وله إرث مهم وأثر في الحضارة العربية، حتى الممالك الآرامية والفينيقية كانت ممالك متنافرة ومتناحرة. وإذا أردنا التحدث عن الحضارات المتعاقبة في هذه المنطقة كالآشوريين والبابليين فقد كانوا متحاربين فيما بينها ودمّروا حضارات بعضهما، فأي منهما هي سوريا التي نتكلم عنها؟ وأتمنى أن ننظر بتصالح فالكل ساهم في صناعة الحضارة التي تلت تلك الحضارات رغم كونها كانت حضارات متصارعة وهذه حكمة التاريخ ولا يعاب علينا، ففي كل بقاع الأرض الحضارات والأمم المتتالية والدول المتجاورة كثيرا ما تتحارب فيما بينها، وحتى إن أردنا التكلم عن آخر مرحلة من تاريخنا وهي مرحلة الدولة العربية الإسلامية كما يسميها الأستاذ فراس السواح، قامت وفي أكثر من مرة بالانقضاض على نفسها، عبر طبقة حاكمة جديدة انقلبت على الطبقة الحاكمة السابقة وأنشأت دولة جديدة، ولكن كل هؤلاء ساهموا في صناعة حضارة واحدة التي عشناها فيما بعد، فكل الحضارات والشعوب والأمم التي عاشت في هذا الإقليم وإن تحاربت هي جزء من تراثنا وتاريخنا وجزء من شخصيتنا الحضارية اليوم، فلا يمكننا أن ننكر أي منها ولا أن نتنكر لأحد منها. 

****

س- بما أن هذا الإقليم السوري يحتوي على قوميات متعددة كالأكراد، السريان وغيرهما. أليس من الإقصاء أن أحصره بالقومية العربية؟

لذلك نقوم بطرح العروبة كوعاء حضاري وليست قومية بالمعنى العرقي، واليوم مؤسس مجمع اللغة العربية بالشام هو كردي، لا أعلم إن وجد من يدلّني على ممارسات إقصائية حصلت مع أي قومية، على سبيل المثال: الأرمن أتوا إلى سوريا ولم يشعروا بأي إقصاء، والدليل عندما حصلت الحرب على سوريا كان الأرمن مدافعين عن سوريا مثلهم كمثل من أجدادهم على هذه الأرض منذ آلاف السنين، وهذا يدل على انتمائهم الحقيقي وأنهم شعب متحضر، وأنهم عاشوا دون إقصاء، وإلا لكان السلوك مختلفاً، بالمقابل هناك بعض القوميات كالأكراد ينظرون إلى أنفسهم بقومية مختلفة، يُحترم هذا الأمر ويُحتوى، وأُكرر عندما يكون مؤسس مجمع اللغة العربية كردياً، رئيس الجمهورية في زمن ما كردياً، ومفتي الجمهورية كردياً، إذاً يوجد احتواء وتصالح وأنا مع الاحتواء والتصالح، فنحن نتكلم عن حضارة عربية، الخوارزمي مثلا عندما جاء من خوارزم وكتب واشتغل وأنجز وبحث باللغة العربية أصبح ينتمي إلى الحضارة العربية، فلا يمكن أن نسلخ عنه انتماءه، والكثير من العلماء في زمن الدولة الأموية والعباسية ذوي الأصول الأفغانية أو الفارسية عملوا بالعواصم العربية وباللغة العربية فباتوا جزءاً من الحضارة العربية وإنجازهم يحسب للحضارة العربية دون أن نسلخ عنهم هويتهم الأصلية التي تحترم. الحضارة وعاء تحترم الجميع وتحتويه ولا ترفض أحداً بناء على قومية أخرى، الحضارة مفهوم أوسع والهوية الحضارية أكثر رحابة من الانتماء القومي الضيق، ومثال سريع: العرب الذين يعيشون في فرنسا أو ألمانيا أو أمريكا، هل من الممكن أن يرفضوا يوما الهوية الفرنسية على أنهم عرب وليسوا فرنسيين، أم أنهم أصبحوا جزءاً من تلك الأمة والحضارة التي يعيشون فيها. فعليها أن تحتويهم برحابة صدر وعليهم أن يتفهموا ذلك، ويقاس عليه الشعوب الذين يعيشون في الإقليم العربي، فإن كان لديها انتماء قومي سابق فهم مرحب بهم، وضربت أمثلة في سوريا حول كبار المسؤولين في سوريا هم من الأكراد، وحتى يوجد فلسطينيون، فمدير الصحة في حمص عندما كنت شابا كان فلسطينياً، وأذكر أن الرئيس الراحل حافظ الأسد قد أرسل مبعوثاً فلسطينياً للأمم المتحدة باسم سوريا.

        ****

س- كتبتَ عن تجميع الحلفاء على أنه مثل تجميع السلاح وتأمين خطوط الدعم، نجاح سياسي وعسكري. سؤالي: ما الفيصل بين أن يكون الحليف حليفا سياسيا وعسكريا وحسب، وبين أن يكون شريكا اقتصاديا وثقافيا وتعليميا وإعلاميا للحفاظ على الاستقلالية كدولة؟

الحدود الفاصلة غير دقيقة وغير واضحة، وبالنتيجة أي احتكاك بين شعبين سيُنتج قيم ومفاهيم وعادات جديدة..

س- أستاذي أتكلم على مستوى دول وليس شعوب؟

نعم ولكن هذه علاقة إنسانية، فالدولة هي مجموعة من البشر، حتى أثناء احتلال الدول لبعضها، بريطانيا عندما احتلت الهند يقول كارل ماركس: “بريطانيا صنعت دولة مؤسسات ديمقراطية دون أن تقصد”، بريطانيا ذهبت لتسرق الهند ونتيجة لاحتكاك دام أكثر من قرن نتجت دولة هندية عصرية، وهذا يندرج تحته الكثير من القيم، فالكثير من المطاعم والأنواع المسرحية والأدبية افتتحت في الهند نتيجة وجود البريطانيين، والحلفاء ذات الأمر، دعينا نفترض مثالا: اليوم يأتي الجيش الروسي إلى سوريا يعيش ويقاتل ويستشهد ويسكن فيها دون أن يفتتح مطعماً يقدّم طعاماً روسياً! حتما سيفتح مطعماً روسياً، وسيقدّم المركز الثقافي مسرحية من الأدب الروسي أو أغنية من الفلكلور الروسي، فالشعوب تحتك ببعضها، ولكن، ولكي أكون دقيقاً في الواقع الراهن وكي لا يقال أنّنا نتكاذب أمام الجمهور، من يتكلم في الواقع الراهن عن حليف ويحاول الإيماء بالنقد على هذا الحليف فهو يتكلّم إمّا عن روسيا أو إيران، فمن يمتلك معلومات أن روسيا أو إيران فرضت تغيير مناهج أو إدخال مادة تاريخية معينة فليخبرنا لأنني لم أشاهد شيئاً من هذا القبيل، ولكن احتكاك الشعوب والدول ببعضها حكما سينتج بعض المفاهيم الجديدة. 

يمكن لبعض دوائر صنع القرار في أحد الدول أن تضغط لتمرير فكرة معينة أو مصلحة معينة فهذا أكيد، فالدولة في الأخير هي تعبير عن القوة الفكرية والشعبية لشعبها، مثل عندما تقوم سوريا بإجراء اتفاقية تعاون بين جامعة دمشق وجامعة موسكو، فمن الممكن أن تكون هناك محاولات أخرى. أنا لا أنفي وجود تأثير ولكن إن وجد تأثير سلبي أتمنى أن تتم الإشارة عليه كي نناقش الموضوع بطريقة إيجابية ونقول لصانع القرار في سوريا أن هناك خطراً فانتبه، وهذا واجبنا ومن غير الممكن أن نستقيل عنه، وسُجّل لي موقف والكل شاهد أن قناة الجزيرة كتبت تقريراً عني عندما تكلّمت عن الطلاب السوريين اللذين كانوا مبتعثين إلى روسيا، فلم يكن عندنا أنا وعدد من الأشخاص تردد بمطالبة السلطة ووزارة التربية في سوريا بتوضيح هذا الموضوع، ولمَ تمّ إعادتهم، وطالبت باستعادة البعثة. فعندما تكون هناك ممارسة عليها إشارة استفهام أو تعجب نطرحها ونناقش فيها وأزعم أن المسؤولين في سوريا يتفهمون ذلك ويأخذون برأي أي مجتهد يقدّم أي فكرة أو يؤشر على خطأ أو خطر معين وخاصة في العلاقة مع الحلفاء، فالعلاقة مع الحلفاء تحتمل البحث وتحتمل التنبيه إلى انزلاقات معينة. 

****

س- شاركت في دورة المؤتمر العربي القومي 32 في بيروت “دورة جنين” 2023م. ماذا بقي لنا من القومية العربية اليوم؟

على المستوى الرسمي السياسي تبقى القليل جداً، أما على مستوى الإرث الحضاري والمعنوي فتبقى الكثير، على الأقل اليوم هنالك ثلاث أو أربع دول عربية تشتبك بالمعركة في فلسطين المحتلة وهي لبنان، سوريا، العراق واليمن.

****

س- ولكن العراق انسحب وعلّق عملياته العسكرية ضد المواقع الأمريكية منذ أيام؟

ولكن توجد مقاومة عراقية تضرب القواعد الأمريكية في سوريا والعراق، فهذه مقاومة، وبالمناسبة ذكرت في مقالي الموسع في بداية الحرب على غزة وهو خيار موضوعي “العراق مخترق أمريكيا للنخاع” وذكرت أنه لا نستطيع التعويل على الدولة العراقية ولكن التعويل على تفعيل العمل المقاوم بالدول المحيطة بعيداً عن السيناريوهات الخيالية التي كتب عنها الكثيرون والكلام التعبوي على أنه بعد كم يوم ستفتح الجبهات، هذه نظرة غير واقعية وغير مصلحية، الحروب لا تبدأ بهذه البساطة والخفة، وعلى أرض الواقع لم يتم فتح جبهات وإنما تمّ تفعيل العمل المقاوم من لبنان والعراق والداخل الفلسطيني. 

في العراق يوجد عمل مقاوم، أما الدولة العراقية لا يمكن التعويل عليها لأنها تعرضت للاحتلال الأمريكي ولم تخرج منه بشكل نقي، السفارة الأمريكية في العراق كيان هائل يتغلغل في كل شيء، ثم هذه الدولة مع محبتي الشديدة وهوسي بالعراق وأشعر بشعور جورج غالاوي حين قال: “عندما أسمع اسم العراق أحس كأن أحداً يناديني”، إلا أنها دولة مخترقة وشكّلها الاحتلال، تحتوي قوى وطنية وقوى غير وطنية، فمن الصعب أن نتوقع منها سلوكاً قومياً أو عربياً واضحاً، فمن الممكن وفي بعض الأماكن أن تنجح وفي أخرى أن تفشل أو تُقدم على فعل مسيء.

****

س- قد يتساءل البعض: إذا كان الأمر كذلك، فلم شارك العراق أساسا ودخل في العمل المقاوم ثم انسحب؟

 إذا أردنا أن ننطلق من هذا المنطلق فكأننا حكمنا على الشعوب أن لا تقاوم، لأن المقاومة دائما ما تنطلق من شعب أضعف من المحتل، المحتل يأتي بقوته الميكانيكية والعسكرية وتفوقه الحضاري الضارب، فالفيتناميون عندما قاوموا أمريكا كانوا الأضعف والعرب عندما قاوموا فرنسا وبريطانيا كانوا الأضعف والسوفييت عندما قاوموا الألمان في الحرب العالمية الثانية كانوا الأضعف، حين قام الجيش الألماني وخلال 24 ساعة بتدمير 1800 طائرة سوفييتية، وخلال 3 أشهر أسر وقتل 3 ملايين جنديا سوفييتيا من أصل جيش قوامه 3.5 مليون، إلا أنّ السوفييت ربحوا الحرب ووصلوا إلى برلين.

****

س- يقال عن القومية العربية: كذبة، نكبة، مهدت لوجود قومية يهودية؟

أولاً لا يوجد طرح لقومية يهودية، اليهود لا يطرحون أنفسهم كقومية بل كدين مرتبط بالعرق، ثانياً القومية بالمعنى الكلاسيكي الرومانسي المطروح  في مرحلة تاريخية هو مفهوم عابر وسيتم تجاوزه في مرحلة أخرى، لذلك تكلّمتُ عن الانتماء الحضاري وأننا نرى العروبة كانتماء حضاري وليس قومية ضيقة، وأوافق على طرح “كذبة” في حال كان المفهوم من القومية هو مجموعة من البشر المنغلقة، فهنا القومية تكون بدعة ولا أتفق مع هذا المفهوم، أما الانتماء الحضاري فهو أمر حضاري ومستمر، القومية طرح استخدم لفترة معينة، وحتى القوميين العرب لم يطرحوا القومية بمفهوم منغلق وبحدود فاصلة بالعكس كان مفهوماً منفتحاً وقدّمت أمثلة على ذلك.

****

س- نعلم أن القوميين العرب سلكوا مناهج متنوعة، كالماركسية، الشيوعية وحتى الإسلام العروبي، هل هناك مشكلة بين الإسلام والقوميين العرب؟

لا أعتقد أنّ القوميين العرب لديهم مشكلة مع الإسلام بالعكس، القومية العربية والحضارة العربية تعترف بهدوء ومحبة أن الإسلام مكوّن حضاري أساسي فيها والمسيحية أيضا، ويجب أن لا ننسى أن المسيحية هي ابنة الشرق وابنة هذه الأرض العربية السورية. 

وأريد أن أوضح فكرة تندرج تحت السهل الممتنع: الدّين سواء كان الإسلامي أو المسيحي هو من أهم المكونات التراثية والحضارية لشعوب المنطقة، فالدّين يمكن أن ننظر له كدين وفقط، ولكن لأنني شخص أتبع العلم فإني أنظر إليه كإرث حضاري هائل، وأي إرث حضاري في منطقتنا هو أكبر من الدّين في أي حضارة أو شعب، الدّين جزء مهم جداً من الحضارة البشرية بكل ما فيه من قيم وأعمال وحكم وقصص، وأزعم أن القوميين العرب متصالحون مع الإسلام ويعتبرون الإسلام جزءاً من الشخصية العربية، وهناك مقولة: “العروبة طائر العنقاء جناحاها الإسلام والمسيحية”.

****

س- ما سر تقسيمة المصابيح على سنوات بدءا من عام 1998م إلى عام 2021م والذي كان له النصيب الأوفر من المصابيح في كتابك “مصابيح وظلال”؟ 

صحيح. السنوات القديمة كان تجميع الأفكار فيها صعباً ليس سهلاً، أما في السنوات الأخيرة وهذه من إيجابيات وسائل التواصل الاجتماعي أنها مكّنتني أن أجمع المقولات المكتوبة في الأعوام 2017- 2018- 2019- 2020 و2021، ففي عام 1998م استطعتُ أن أحصل على فكرة واحدة “إذا غلب الهوى فسد الرأي”.

****

س- تقول عن الحب: “ليس فيه خروج آمن كالحرب”، “الحب وهم”، “العشق وردة تنمو عند التقاء اليأس والأمل”، ليس هناك ما هو أخطر من الحب على حياة الرجل”، “الحب ليس ما نحسه بل ما نتمنى إحساسه”، “أن تحب يعني ألا تستطيع أن تحب مجددا”، وغيرها من المقولات الواردة في مصابيح وظلال. كيف توصف لنا هذه النظرة في الحب؟

بالمناسبة هذه نظرة علمية فلسفية، جزء من صياغة هذه الأفكار ناتج عن تعمقي بعلم النفس والطب، واهتمامي بعلم الدماغ وتطور الأعصاب. هذه النظرة فيها شيء من الرومانسية المبنية على أرضية علمية، الحب فعلا ما نتوق إليه، مثل ما يقول محمود درويش تماما: “الطريق إلى البيت أجمل من البيت”.

****

س- هل يوجد حب أم مصلحة؟

قد يكون كلامي صادما للمتابعين والأحبة، الإنسان كائن عضوي بيولوجي ينطلق من مصلحته، لا يعني هذا الكلام سلبياً، فالحب إجابة على أسئلة في دواخلنا، جزء من هذه الأسئلة هو مصالحنا ولو لم نكن نعي ذلك. عندما قال البروفيسور الروسي “سيرغي سافيليف”عندما تختار صبية شخصاً مرتاح ماديا كي ترتبط به وتحبه، فهي صادقة في حبها وجزء من حبها له لأنه مرتاح ماديا كونه يحقق مصلحتها ومصلحة أولادها. فجزء من دوافع المشاعر والأسئلة التي بداخلنا هي مصالحنا المشروعة وأنا أتكلم عن الطبيعة البشرية.

****

س- ذكرت: “إن كان الزمن أشرس أعداء المرأة يتم التغلب عليه بالوقار”. فما أشرس أعداء الرجل؟

الحب (مع ضحكة). لا أمزح، أتصوّر أنه الزمن، فهو عدو الإنسان.

****

س- كيف يتغلب عليه؟

باستغلاله والعمل، الزمن حاضن وحامل للإبداع والإنجاز، فالزمن فرصة كبيرة للإنجاز.

****

س- يسأل الأديب أكثم ديب: تجريد الحب بعيدا عن المصالح هو السؤال المطروح، ولنسأل هل مفهوم الحب هو مفهوم طوباوي؟

الحب بالمعنى الرومانسي وبعيدا عن المنشأ العلمي وفهم دوافعه الذي طرحته نعم قد يكون غير قابل للتطبيق، أنا وصفت دوافع الحب علمياً، كيف يتشكل الحب والشغف، أما مَن يتمنى أن يكون هناك مشاعر بالطريقة الرومانسية الأدبية التي يُكتب عنها بمعزل عن دوافعها، أتصور أنه كلام رومانسي.

****

س- بالعودة إلى السياسة والجامعة العربية على وجه التحديد. اليوم الجامعة العربية التي تضم دولا تختلف سياستها الخارجية فيما بينها وانقسام تحالفاتها بين المعكسر الأمريكي وبين المعسكر الروسي والإيراني والصيني، منها من طبّع وآخر سالم، ومنها لا يزال يقاوم الكيان المحتل ومع محور المقاومة. هل ما زال التعويل على الجامعة العربية مثمرا لاسيما وكتبت مقالا حول دور الجامعة العربية الإيجابي بمناسبة عودة سوريا إليها؟

  لستُ مصدوماً من هذا الواقع، لأنني قمت بتفكيكه وفهمه. نحن نتكلّم عن مؤسسة دولية تسمّى “الجامعة العربية” مكوّنة من مجموعة من الدول التي تنتمي إلى إقليم جغرافي يتعرض لهزائم من قرون، كيف لنا أن نتوقع من هذا الكيان أن يعمل بطريقة إيجابية ويحقق مصالح الشعوب ونحن مسلّمون أساسا في أن معظم الأنظمة العربية لا تعمل بهذه الطريقة تقريبا، فإذا كانت   

الأنظمة السياسية العربية بمعظمها لا تعمل على تحقيق مصالح شعوبها، فأظن من السذاجة التوقع والتأمل من تلك الجامعة المكونة من هذه الأنظمة أن تعمل لمصلحة العرب. 

هذه ليست دعوة لمحاكمة أحد ولكن للاعتراف بالواقع، نحن شعوب بمرحلة خط بياني حضاري منحدر جداً وبأسوء أيام العرب، وهذا لا يدفعني إلى أن أجلد نفسي كعربي، لأنه سبق وكانت هناك شعوب أخرى سارت في مراحل حضارية سيئة ثم نهضت ثم انتكست. اليونان مثلا وريثة الحضارة الإغريقية أين اليونان اليوم وأين الحضارة الإغريقية! إيطاليا وريثة روما والتي كما يقال هي من أقوى الامبراطوريات في التاريخ، أين روما اليوم!  أوروبا في القرون الوسطى كانت في حالة يرثى لها من التخلف والانكسار الحضاري، والآن هي متقدمة على الأقل تقنياً.

فعندما نعترف ونفهم أننا في أسوء هذه المراحل فمن غير المقبول أن نتوقع من مؤسساتنا أن تعمل بكفاءة الاتحاد الأوروبي والذي أساسا لا يعمل بكفاءة. 

بالعودة إلى مقالي، لم أقل أن الجامعة العربية قادرة على لعب دور إيجابي ولكن قلت “ممكن”، ومع ذلك أثبتت أنها قادرة على لعب دور، وأكبر دليل دورها ضد سوريا في مرحلة زمنية معينة، فلا يمكن أن نقول لا دور لها، ولكن كان الدور سلبيا، لأن مكوناتها سلبية فحتما سيكون الدور سلبيا، إذاً هي قادرة على لعب دور، فهذه المؤسسة تلعب أدواراً سلبية أو إيجابية حسب مكوناتهاـ 

ما أريد توضيحه هو أن هذه المؤسسة قادرة على أن تعمل ولكن تحتاج مكونات إيجابية لتعمل بشكل إيجابي، وفي الواقع الراهن المكونات الإيجابية غير واضحة، لكن، ولأنك ذكرت المعسكرين الدوليين الكبار أتوقع أو أزعم ومع الأيام وتغير موازين القوى العالمية وتطور نظام عالمي جديد وليس ولادة لأن تعبير “ولادة” غير دقيق فلا توجد لحظة مفصلية فيه، فمع زيادة هذا التغير الدولي وزيادة سطوة قوى الشرق والجنوب سيتغير دور وشكل الجامعة العربية بما ينسجم مع الواقع الدولي ولن يكون إنجازاً للعرب أو للحكومات العربية المساهمة في تشكيل الجامعة وإنما بشكل ينسجم مع التطور الدولي، والأمم المتحدة اليوم نفسها قادرة على أن تتخذ بعض القرارات الإيجابية، فالجمعية العامة تأخذ قراراً ضد “إسرائيل” لأن موازين القوى تغيرت.

****

س- إذا كانت الجامعة العربية اليوم غير قادرة وبأدنى الحدود على اتخاذ قرار عملي لوقف إطلاق النار في غزة، وأن الوحدة العربية باتت شبه مستحيلة. هل تؤيد فكرة إحلال الجامعة العربية؟

لا. لنفترض أنه لا توجد جامعة عربية هل نتوقع من تلك الدول أن يجتمعوا ويأخذوا قراراً إيجابياً! لا. 

شرحت آنفاً أنه مع تطور موازين القوى الدولية سيتغير دورها وتكوينها، والأيام والمستجدات هي من تثبت دقة هذه القراءة. الأمم المتحدة نفسها وعلى مدى عقود كانت تفشل في إحقاق الحق، فهل نحلّها! هل أنت مع حل الأمم المتحدة؟ هل نستطيع أن نتخيل العالم دون الأمم المتحدة، مجلس الأمن وعلى كل تحفظاتنا عليه، لولا وجوده لقصف الأمريكان سوريا، لكن الأمريكيين فشلوا في اتخاذ قرار من مجلس الأمن بضرب سوريا أو تشكيل منطقة حظر جوي. فلو لم يكن هناك مجلس أمن ووزن لروسيا والصين ضمن هذا المجلس كان من المتوقع لهذا السيناريو أن يسير رغم كل تحفظاتنا على الأمم المتحدة، ولكن من غير المعقول أن نقول لمؤسسة تضع حدّاً أدنى من الانضباط الدولي، ولا أقول تضبط الواقع وإنما حداً أدنى لأن الواقع المثالي بعيد جداً عن هذا الكلام، فنقوم بفرطها وتفكيكها. 

الجامعة العربية موجودة ووجودها على الأقل يشكّل رابطة لمجموعة هذه الشعوب التي تنتمي إلى حضارة واحدة، ومن المفترض أن نسعى إلى تطوير هذه المنظومة وهنا نعود إلى بداية الحديث أنه عندما يكون هناك هزائم وخسارات أو إساءات من اللازم أن نكون واعين، هنا يكمن وعي الأمة، فلا نهدم العروبة لأن هناك أنطمة عربية في داخل الجامعة تعمل ضد مصلحة العرب، المفترض أن أعمل ضد هذه الأنظمة أو أحاول تصليح سلوك تلك الأنظمة وليس أن أعمل ضد الفكرة أو أهدمها.

****

س- هل تؤيد اتحاداً عربياً جديداً على غرار الاتحاد الأوروبي؟

الاتحاد الأوروبي بدأ لتنظيم الجمارك ومنها انطلقوا إلى وحدة اقتصادية ثم صار الاتحاد الأوروبي. ما أطالب به رؤية موضوعية مع الاعتراف بالواقع الذي نحن فيه، اليوم إن وجد من يملك القدرة على تجميع 7 إلى 8 دول عربية قريبة جغرافيا من بعضها لتشكيل منظومة جديدة فاعلة لمَ لا، ولكن هذا الفرض غير واقعي.

كتبت مقالاً حوالي عام 2003 أو 2004م دعوتُ فيه إلى تشكيل تحالف دول المنطقة (سوريا، لبنان، العراق) ومن يريد من العرب كالأردن مثلا.

****

س- كثر الكلام عن غياب المشروع العربي اليوم مما يجري في غزة وهو ليس بجديد ولكن: هل ترى في غياب المشروع العربي فرصة منحت إيران لدعم القضية الفلسطينية على حساب العرب؟

هذا شأن حضاري علمي دقيق جدا، فعندما يكون هناك فراغاً الكتلة القريبة الأقوى ستملأ هذا الفراغ، وهذا ليس توصيفاً إيجابياً ولا سلبياً. عندما ضعفت سوريا هجمت تركيا لتملأ بعض الفراغات على أراضيها.               

إنّ وجود فراغ سياسي في المحيط العربي حتماً سيشجع الدول والقوى المحيطة بأن تأخذ حيزاً من هذا الفراغ، وهنا يكمن الفارق بين الدولة التي تأتي لتملأ الفراغ بصورة إيجابية وبين أن تملأها بصورة سلبية، يعني أن تأتي إيران لتدعم القضايا العربية، ومن لديه أية معلومة عن موقف لإيران ضد القضايا العربية فليتفضل ويخبرني لنتكلم عنه، على الأقل إيران تقول: أنا أدعم وحدة العراق، وحدة سوريا، أدعم حق الشعب الفلسطيني بأرضه، بينما تأتي دولة كتركيا تملأ الفراغ بصورة سلبية من احتلال أرضك وتتريكها وسرق خيراتك، محاولة تقسيم الشعب وتهديد كيان الدولة السورية وتفكيكها، وهو واضح وبنفس الوقت تحاول أن تمتد خلال السنوات الماضية في لبنان، فلسطين وفي كل المنطقة على أن تملأ جزءاً من هذا الفراغ المتشكل في الفضاء السياسي العربي وإنما بطريقة سلبية.

****

س- يعقب الأديب أكثم ديب: إيران ملأت الفراغ نتيجة غياب المشروع الإسلامي السياسي؟

جزء من الفراغ الموجود له علاقة بالفكر الإسلامي أو الإسلام السياسي، ومن الواضح أن إيران تبذل جهداً كي تقدّم نفسها كمرجعية إسلامية، وهذه هويتها السياسية الحالية، ومن أحد الملاحظات حول هذا الموضوع وبكل موضوعية ونزاهة أن إيران تحافظ على علاقة مع كل التيارات الإسلامية، ليس لديها قطع مع الإخوان المسلمين أومع تركيا وقطر، وحاولت جاهدة أن تبقى على علاقة مع السعودية وفي أسوء الظروف، وختمت بالمصالحة برعاية صينية، هذا يحسب لها لأنه دليل على تنوع استراتيجي وفكري، وقد لا يطابق رغباتي أنا كسوري، فأنا أتألّم من الإخوان المسلمين، ولا أستطيع أن أتفهم علاقة إيران مع جماعات أو تيار فكري معين محسوب على الإخوان المسلمين، ولكن، من اللازم أن أتذكر أن إيران ليست سوريا، أنا كسوريا لديّ سياستي وأولوياتي وآلامي، إيران تدعمني روسيا تدعمني، تساعدني في ملفات معينة، ولكن روسيا ليست سوريا، فلا يمكن أن يتطابق موقف إيران ورسيا والصين مع موقف سوريا، وإذا تطابق فسوريا أصبحت دمية في يد إحدى هذه الدول، وهذه من الإيجابيات. 

****

س- نقدت قناة الجزيرة حول تكريسها لحمسنة الصراع اليوم في غزة بعد محاولة لأسلمته. اليوم عندما ترفض مصطلح الأسلمة فهذا يعني أنك ترفض محور المقاومة المصبوغ كما نرى بصبغة الإسلام وهذا لا يعني مفهوما إقصائيا لباقي الأديان فهناك مسيحيون مقاومون وربما ملحدون؟

  اليوم المقاومة الإسلامية والمحسوبة بشكل واضح على الإسلام هي المقاومة اللبنانية المتمثلة بحزب الله، هذه المقاومة علاقتها مع كل الأديان والطوائف ممتازة، هناك تنسيق وتعاون ووئام واحترام شديد لكل الطوائف الأخرى داخل الإقليم، وهناك ما يعرف بكتائب المقاومة التي تمتلك مرجعية مختلفة. 

عندما أتكلم عن أسلمة الصراع في فلسطين فهو كمحاولة لإخراج المسيحيين وغير المسلمين من الصورة، كان هناك مخطط لمحاولة إخراج الصراع العربي الإسرائيل،ي فأصبح صراعاً إسلامياً إسرائيلياً أو حاولوا جعله كذلك. وإذا لاحظت أن قناة الجزيرة خلال تغطية الحرب على غزة تعمل على جعل حماس كل شيء في المشهد، كثيرا ما يسعدني عندما أسمع في الإعلام السوري عند استضافة ضيف يتكلم عن كتائب شهداء الأقصى ودورها، هي وغيرها، فالمشهد ليس حمساويا فقط، مع تقديري لكل شخص يقاتل إسرائيل في أرض فلسطين المحتلة، ولكن لا داعي لحمل أجندة وحصر الصراع بجهة معينة، لأنه ستولد عندي سؤال: لماذا.

****

س- ولكن اليوم إسرائيل في حربها على غزة هي ضد من، هدفها مَن؟ أليس التخلص من حماس؟

هدفها المقاومين والفكر المقاوم، وفي كل مكان.

****

س- بالرغم من أنني لا أتفق مع حماس إيديولوجيا ولكن أليست هي الواجهة الإعلامية السياسية للحرب؟

اليوم من يقاتل أيضا، أليس الجهاد الإسلامي أيضا والجبهة الديمقراطية.

****

س- أليس حزب الله واجهة المقاومة اللبنانية اليوم أيضا؟

 الواجهة التي يحاول إعلام معين وعلى رأسه قناة الجزيرة يقولها، وأنا أنبّه أن الصراع ليس حمساويا، هناك الجهاد الإسلامي والجبهة الديمقراطية والشعبية وحتى فتح هل نبخسها حقها ونُقصيها لصالح أجندة لا نعرف ما هي لتحصر الصراع بين حماس وإسرائيل فقط، ألا يبدو هذا تضخيما لدور حماس لمهمة مستقبلية معينة، وحقي أن أطرح السؤال لأنني أفكر. توجد قوى فلسطينية وشعب فلسطيني يفكر بالمقاومة هذا هو عدو إسرائيل، فعدو إسرائيل هو الفكر المقاوم، ولو أمكن لها أن تتخلص من حزب الله لفعلت رغم أنها حاولت في عام 2006م.

****

س- وماذا عن استنزاف المقاومة الذي كتبت عنه؟

كتبتُ عن المقاومة في فلسطين، وهنا توجد نقطة جيواستراتيجية مهمة جداً، وذكرت أن المقاومة الفلسطينية هي التي تتعرض للاستنزاف، أما المقاومة اللبنانية لا تتعرض، لأن الفرق بين غزة وشمال فلسطين هو سوريا، لو كانت سوريا على حدود غزة لن نخاف على المقاومة أن تتعرض للاستنزاف، ومؤكَّد أن الشعوب العربية المعنية بدعم غزة تدعمها، ولكن أعتقد وصول الدعم هو أقل من الخسارات بكثير لذلك أخاف من الاستنزاف، بينما عندما تكون على حدود آمنة كحدود سوريا، قادرة على الدعم في كل شيء ستكون مرتاحة في كل شيء.

****

س- إذا أراد يزيد أن يسمّي الصراع اليوم مع العدو، ماذا يسمّيه، علماً أن مصطلح الصراع العربي الإسرائيلي قد يكون سقط مع كامب ديفيد والتطبيع، وأنت متحفظ على تسمية المقاومة الإسلامية؟

لا، يُسمّى صراعاً عربياً إسرائيلياً. إذا كانت هناك حكومة معيّنة عملت “سلاما” أو “أوسلو” لكن يبقى خيار معظم الشعوب العربية والواضح عليها أنها تميل ميلا آخرا وهذا يحافظ على جذوة الصراع، وهي من النتائج الإيجابية لمعركة طوفان الأقصى وما نجم عنها من حرب وبكل آلامها وخساراتها أعادت جزءاً كبيراً من الضمير العربي والتلاحم العربي على صعيد الشارع ومشاعرهم وتوجههم نحو فلسطين، ولكي أكون حقيقياً، فلسطين تحتاج إلى مزيد من العمل من قبل الشعوب قبل الحكومات، لا يكفي التعاطف وإني أرفع تساؤلاً كبيراً عن الضفة الغربية: لماذا لا تنتفض بشكل صارخ بوجه العدو خلال هذه الحرب.

****

س- تناولت الديمقراطية مع التطرف الديني بأنهما نزعتان إيديولوجيتان خطيرتان على المدن والتجمعات، وأن الديمقراطية شكل شرس من الديكتاتورية. أفهم التطرف الديني، ولكن لماذا الديمقراطية؟

الديمقراطية هنا هي الديمقراطية التي يُروّج لها وتُزرع في أنوفنا، ديمقراطية الصندوق والممارسات الديمقراطية المسطحة البسيطة بعيداً عن ثقافة القبول والديمقراطية، وكتبت بأن الممارسات الديمقراطية يبنيها مواطنون لا يرمون المهملات بالشارع، وكي تكون الديمقراطية فِعلاً يجب أن تكون صيرورة وقيم وممارسات وليست وصفة، وأساساً لا نستطيع القول بأن هذه الدولة ديمقراطية وتلك غير ديمقراطية، وإنما نقول دولة تمارس الديمقراطية أو تطبق المزيد من الممارسات الديمقراطية، كالعلمانية فهي ليست وصفة جاهزة، ولا يوجد فيها قانون يقول هذا علماني وذاك ليس بعلماني، فالديمقراطية والعلمانية وغيرهما من المفاهيم التجميعية الحضارية تأخذ طابع الصيرورة والتشكل والسعي، فأنا أسعى لأعزز العلمانية أو الديمقراطية.

****

س- إذا لا يمكننا الوصول إلى الديمقراطية والعلمانية كانعدام وصولنا إلى الوحدة العربية؟

تماما، وأساسا من المفترض أن تكون متطورة، أما الوحدة العربية وضربنا أمثلة عليها ستكون في زمن آخر، لسنا بزمن الوحدة العربية، نحن بزمن الضعف العربي كي لا نكون طوباويين، وكما قال عصام المحايري: “العروبة هي شعور بالتآخي ورغبة بالتوحد”.

****

س- أنت مؤمن بأفكار البعث ولديك فكر تنويري. الأفكار التي تأسست عليه هل تصلح اليوم للتطبيق مع تطور الزمن، وما الأفكار التي تحتاج إلى تنوير؟

الأفكار والقضايا لا تموت، قد تموت ربما بعد 10 آلاف سنة، فاليوم مثلا لا توجد حضارة سومرية، ومن غير المعقول لشخص كان يعيش في زمن الحضارة السومرية أن يتوقع موتها بعد 3 سنوات، فالثقافة والحضارات من الممكن أن تأفل بعد آلاف السنين. أما بالنسبة لمنطلقات حزب البعث لفهم الواقع العربي قد تحتاج إلى تطوير وتحديث، ولكن فكرة العروبة والحضارة العربية ودور الإسلام والمسيحية في الحضارة العربية، فكرة الوحدة العربية هذه أفكار لا تسقط من واقعنا مهما كان الواقع سيئاً، وإلا ما معنى وجود الأحزاب العروبية والحركات العربية.

حزب البعث ككيان سياسي شعبي موجود في السلطة منذ عقود يحتاج إلى نظرة نقدية وتطوير والكثير الكثير من العمل لأنه حزب مثله كمثل كل الأحزاب في العالم مكون من مجموعة من البشر، والتي تنطبق عليها قوانين علم الاجتماع وعلم النفس، وعندما تجلس مجموعة من البشر في السلطة تختلف المقاييس والأزمنة وقوانين اللعبة، وعندما تختلف قوانين اللعبة سنسير نحو شيء لم نكن مخططين له، كتسريب مساوئ معينة، كالبيروقراطية والترهل ووفود عدد من الوصوليين إلى جسم الحزب، وهو أمر واقع ولا بد من الاعتراف به. لمست خلال السنوات الماضية بعضاً من القرارات والتوجهات التي توحي بأن هناك وداخل الحزب من يفكر بأنه يجب أن نوقف القبول العشوائي في الحزب لحمايته، وبحمايته نحمي الفكرة، إلا أن الفكرة لا تقف عند الحزب ولا تنتهي بنهايته.

الحزب بحاجة إلى مراجعة شاملة وعميقة، وفي السنوات الماضية كانت هناك عدة محطات كطريقة الانتخابات الداخلية التي تنتج مرشحين للمناصب أو لمجلس الشعب، واليوم يوجد حراك داخلي فكري في الحزب لتطوير أداء الحزب وتطوير منهجيته بالعمل لاستعادة شبابه بشكل علمي وممنهج وأمين ليحمي نفسه من المساوئ التي اعترته أثناء وجوده في السلطة، وهذا أمر إنساني، فأي حزب في العالم يجلس في السلطة ستتسرب إليه بعض السلبيات ومع الزمن تصبح هذه السلبيات كبيرة، فلا بد من النظر بحكمة وعقلانية والعمل على إصلاحها.

****

س- أنت تؤيد القوانين المدنية الاختيارية؟

طبعا، علما أنها لا تُسيء إلى الأديان ولا إلى المؤسسات الدينية، بالعكس تحفزها لتقدّم أفضل ما عندها، فالمؤسسة الدينية أو الجماعة الدينية وبوجود خيار الآخر يضطرها إلى تحفيز نفسها وتعطي أحسن ما عندها كي تحافظ على جماعتها ويكون أبناؤها منتمين إليها، فعندما أضع الخيار الآخر باحترام وموضوعية وعدالة فأنا أحفزها على تقديم الأفضل، ولكن عندما تكون محتكرة وطبعا لا يوجد عندنا احتكار، كي لا يفهم من كلامي أنني أنتقد جهة محتكرة فلا أرى جهة محتكرة وإن وجد فليدلني أحدهم عليه، ولكن في بعض القوانين توجد أحادية الراي في شأن الأحوال الشخصية، فعندما تسمح للإنسان أن يعمل عقد زواج مدني أو كنسي أو شرعي، ولكي يكسبه الشرعي لجهته من اللازم أن يتصرف بطريقة نزيهة وراقية وأحسنها كي يقتنع بالعقد الخاص به، فوجود الخيار الآخر وبتصوري، يحمي المؤسسة لأنه يدفعها لتفعيل نفسها.

****

س- ولكن هناك تشريع إسلامي وقوانين كنسية قد تتعارض مع القوانين المدنية، فكيف سيتحقق التوازن دون أن يحدث تصادم؟

لا أتصور أن هناك دين من الأديان يزعم أنه محلي، أي دين وخصوصا الإسلامي والمسيحي الّذَين نعيش في كنفهما لا يزعم أي منهما أنه مختص بسوريا، وعلى مستوى العالم الأحوال الشخصية متنوعة تنوع البشر، وكل دولة لها قوانين حتى في الولايات المتحدة كل ولاية لها قوانينها، فلا أتصور أن أحد الأديان يظن أنه يمكنه أن يطبق وصفته على كل الكرة الأرضية، أفترض أنه من يرى أن وصفته تصلح للتطبيق فليرينا أفضل نسخة منها ويقنع الناس بها وبنفعها وإن لم يقتنع الناس فعليه أن لا يزعل بل أن يطوّر من وصفته وطريقة إيصالها أكثر، فالقبول والتفاهم هما السمة.

****

س- تقول:  “أنا لا أرفض صداقة المحجبات ولكن أفتح لهن أبواب عقلي واصطحبهنّ في رحلة شيقة للبحث عن الحقيقة”. اشرح لنا؟

الكلمة كُتبت رداً على أحد كبار المفكرين، دون ذكر أسماء، الذي قال أنه يرفض صداقة المحجبات، وبرأيي العكس تماما وأنا لا أرفض صداقتهن ولا العلاقة بهن، وأعتقد أن الحجاب ليس فرضاً في الإسلام وهو ينضوي على رسائل يجب توضيحها، فأي صبية أو سيدة محجبة وبمنتهى الود والاحترام أتحاور معها ونبني صداقة، فهذا أنا وأنت أصدقاء، ومن خلال هذه الصداقة من الممكن أن أُضيء على وجهة النظر التي أراها حول الموضوع وقد يؤثر هذا الكلام على وجهة نظرك وقد تؤثرين على وجهتي نظري، أما أن أرفضك لأنك محجبة فهذا كلام غير مقبول.

****

س- الحوار معك لا ينتهي أستاذ يزيد، ما الجديد؟

كتاب حروب اللاوعي انتهى وبانتظار الطباعة، ويوجد حاليا عند اتحاد الكتاب العرب مجموعة قصصية بعنوان “دمعة وشمعتان”، وآمل أن ينطبع بوقت قريب، والكتاب الذي أعمل عليه حاليا هو نص روائي بدأت به عام 2013م، وأقوم بإخراجه النهائي بعنوان “نصف الحقيقة”، والكثير من المقالات والدراسات، بالإضافة إلى كتاب “مصابيح وظلال 2” جاهز ولكن في وقته، وبعد أن أنتهي من العمل الروائي لدي كتاب عن الإسلام مستوحى من المقالة التي كتبتها يوما “الإسلام بين قوسين جيوسياسيين”.

****

س- الكلمة الأخيرة لك؟

أشكرك وسفير برس على اللقاء وأشكر المتابعين والمناقشين بأسئلتهم المطروحة، شكرا للجميع، كما أن الإعلامية ريما يوسف تستحق تحية على ملاحظاتها والتي تهتم بما أكتب وأعمل به، وتريد أن يصل إلى أكبر قدر ممكن من الجمهور.

#سفير_برس _إعداد وحوار: هبة عبد القادر الكل

لمتابعة الحوار مرئيا على الرابط التالي: 

https://m.facebook.com/story.php?story_fbid=339878532355117&id=100002257304205&mibextid=Nif5oz

 

الكلمات المفتاحية: 

#سفير_برس #يزيد_جرجوس #علم_اجتماع #سياسة #سوسيولوجيا_السياسة #الوعي #الأمة_العربية #القومية_العربية #الهوية_العربية_السورية #المقاومة #في_الاجتماع_السياسي #مصابيح_وظلال    

سفيربرس _يزيد _بونسو _جرجوس

   

إعلان
إعلان

رئيس التحرير

محمود أحمد الجدوع: رئيس تحرير صحيفة سفير برس. صحيفة سورية إلكترونية، يديرها ويحررها فريق متطوع يضم نخبة من المثقفين العاملين في مجال الإعلام على مختلف أطيافه, وعلى امتداد مساحة الوطن العربي والعالم.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *