” ذاكـــــرة الــــــوَرق ” .. بقلم : غانا أسعــــــد
# سفيربرس
تبدأُ رائحةُ القهوةِ التسللَ إلى أرجاءِ البيتِ الصغيرِ الدافئِ ، فالمَوقِدُ مُشّتَعلٌ منذُ الصباحِ الباكرِ ، وصوتُ طقطقةِ الحَطَبِ يَختلطُ بصوتِ رَشقَاتِ المَطَرِ التي تَضربُ زُجاجَ النّوافِذِ .
البيتُ المُرتب بذوقٍ رفيعٍ وبساطةٍ ملفتةٍ ، فألوانُ الأسّاسِ هَادئةٍ مُتناغِمةٍ معَ ديكور البيت ومعَ الزهور الناعمةِ المُوزعةِ بانتقاءٍ مَدروسٍ ، كلُّ رُكنٍ فيهِ يُوحي للناظرِ باكتسابِ طاقةٍ إيجابيةٍ .
صوتٌ رقيقٌ يُنادي :
– يَا أنور ، أينَ أنتَ ؟
القهوةُ جاهزة تنتظركَ ( قالت أمُّ سامي لزوجها )
– أنا قادمٌ يا ليلى ، اسّكبيها ريثمَا أدخُلَ .
تقفُ ليلى بِمدخلِ البيتِ وتَسألهُ :
ماذا كنتَ تعملُ في الخارجِ ؟
لقد تبلّلتْ ثيابكَ بالمطرِ !
– يا عَزيزتي كُنتُ أُقَطِّع بعضَ الحَطبِ ، فالبردُ قارسٌ سَنَحتاجهُ لبقيةِ اليوم ، يَبدو هَذا الشِّتاءَ قاسِّياً يَا ليلى .
– حَسَناً عَزيزي ، بَدِّلْ ثِيَابكَ كي لا تَمرضْ ، رَيثَما أُسَخِنُ رَكوةَ القهوة لقد بَرَدَتْ .
خَلعَ أنور حِذَاؤه في مدخلِ البيتِ ، وكذلكَ قبعتهِ الصوفيةِ المبلّلةِ بِماءِ المَطَرِ ، لِيَظهرَ بعضُ الشَّعرِ الأبيضِ المتناثرِ بعبثيةٍ على رأسه .
لكنَّهُ كانَ فخوراً أنّهُ ما زالَ يَحتفظُ بِقامَتِهِ الشَّامِخةِ وعرضَ كَتفيهِ، حتى مَعالمُ وجههُ مَازالتْ تَحتفظُ بِشيءٍ مِنَ النضارةِ رغمَ سنينَ العُمّرِ ، فهو يَهتمُ بصحتهِ ونوعيةِ غذائهِ ، ويُثابرُ على رياضةِ المَشيِّ مُعظم الأَيّام معَ ليلى .
السَّيدُ أنور تَجَاوزَ العَقدَ السَادسَ مِنَ العمرِ بعامين ، يَحملَ إجازةً في الدراساتِ القانونيةِ و عَمِلَ مُوَظفاً لسنينَ طويلةٍ في أحدِ دوائرِ الدّولةِ للشؤونِ القانونيةِ.
وقد أُحِيلَ للتقاعد لبلوغ السن القانونية .
لذا يُقَرّر أنْ يُشغل نفسه كي لا يقعَ في فَخِ المَلل ، وليَملأَ وقتَ فراغهِ بِمَا يُحبُّ مِنْ هِواياتٍ قديمةٍ ، كالقراءةِ بالدرجةِ الأولى فهو يملكُ مجموعةٍ قَيِّمةٍ مِنَ الكتبِ في مكتبتهِ الخاصة .
ويُتابعَ بعضَ الأخبارِ والبرامجَ العلميةِ ، والثقافية ، على التلفاز و قليل من المسلسلات مع ليلى .
كذلكَ قرّرَ أنْ يُعطي حَيِّزاً مِنْ وقتهِ للإعتناءِ بحديقةِ المَنزلِ الصغيرةِ ، فيزرعُ بعضَ أنواعِ الخضارِ ويعتني كذلكَ بالورودِ الخاصة بزوجتهِ .
وطَبعاً ليلى تُبدي سَعادتها بهذهِ المبادرةِ الثمينةِ مِنّهُ.
هي تحترمهُ كثيراً ، فهوَ الزوج النبيلُ والأبُّ المِثالي ، يهتمُ بأصغرِ التفاصيلِ لحياةِ أسّرتهِ المؤَلفةِ من أربعةِ أشخاصٍ ، هو وليلى و ولديهما الشابانِ ، المهندسُ المدنيِّ سَامي ، ومُهنّد الذي يَصغرهُ بعامينِ ، لكِنَّه لم يُكمل دراستهِ الجامعيةِ كأخيهِ فهو على حَدِّ قَولهِ لا يُحبُّ الدّراسة .
كانَ يهوى الموسيقا والرسم ،
كان يتلقى بعض دروس الرسم عند فنانٍ قديمٍ مشهورٍ في بلدته
فتأثر بأسلوبه ، وأبدعَ في الرسمِ أكثر .
أمَّا ليلى الأُمُّ الحنونُ الرائعة ، هي تَصغرُ أنور بعقدٍ من الزمن ، تزوجا بعدَ قِصَّة حُبٍّ جَميلةٍ ، ومَا زَالاَ يَحتفِظَانِ بِذاكَ الحُبَّ الذي أمَسا نَادراً في هذا الزمنِ ، ذاكَ الحُبّ الذي طالمَا اتفقا أنَّ سببَ استمرارهِ هوَ الإحترامُ الكبيرُ المتبادلِ بينهُمَا .
تُحبُّ ليلى أنْ تتباهى أمَامَ أنور أنّها مَا زالتْ جَميلة وبَشرتها ناعِمَة ، وأنَّ التَجاعيدَ لمْ تغزوا وجهها كغيرها مِنْ نساءِ جيلها ، شَعرها الكَستنائيّ الهَادىء مَازالَ يَحتفظُ بكثافتهِ ورونقهِ ، لكنّها تستعيدُ الّلونَ في صالونِ التَجميلِ كُلمَا لاحَ شعرٌ أبيض .
ليلى المُرَتبة ، المَرحة ، أنيقةٌ في هِندامها و بيّتها ، وتربيتها لولدِيها وحتى في عَلاقَاتها الإجتماعية.
سَخَنت ليلى القَهوة ، سَكَبت فُنجَاناً لأنور ..
– تَفضلْ عَزيزي اشربْهَا سَاخنة تمنحكَ بعضَ الدِّفءِ ، واقتربْ مِنَ المَوقدِ قليلاً .
يَرشفها أنور عَلى عَجَلٍ ، ويَأخُذ نفسَاً عَميقاً
– اللّه .. مَا أطيبها ، كَمْ أُحِبُّ مَذَاقَ قَهوتكِ يَا ليلى .
– صَحة وهَنا حَبيبي (بابتسامةٍ يَعلوها التَفاخرَ ، أجَابته )
– ليلى أتَعلمينَ أنَّ مهنَّد طلبَ منّي زيارته في مرسمه ؟
يُريد أنْ أُعطيه رأيي بأعمالهِ قبل افتتاحِ معرضهِ ، ويقولُ أنَّه عاتبٌ عليَّ فمنذُ مدة لمْ أقصدهُ في المرسم .
– حسناً تفعلَ عزيزي ، إنّه مُدرك لذائقتكَ الفنية ويريدُ نصيحتكَ ( أجابته ليلى )
تأخذُ رشفةَ قهوةٍ و تتابع ..
نَسيتُ أنْ أُخبركَ مِنذُ يومين ، كنتُ أتسوقَ بعضَ الحَاجياتِ ومرَّرتُ بالقربِ مِنْ مَرسمه ، فخطرَ لي أنْ أزوهُ ، لقد سرَّ كثيراً بي ، كما سررت أنا برؤيةِ أعمالهِ الجديدةِ ، إنَّه مدهش حقاً .
– أنا سعيدٌ جداً بذلكَ ( يُجيب أنور و يهزُ رأسه بعلائمِ الرِّضى )
في هذه الأثناء ، يُحركَ أنور الحطبَ في الموقدِ ويُقلِّب حَبَّات البطاطا والكستناء اللاتي وضعتها ليلى قَبلَ قليلٍ ، ويُكملُ قائلاً :
– أتذكرينَ يا عزيزتي كَم كُنّا نَلومهُ على التقصيرِ في دراستهِ ونحاولُ إجبَارهِ على أختيارِ فرع في الجامعةِ نجدهُ مُناسباً لكن دونَ جَدوى .
– نعم لقد كانَ عَكسَ سَامي في الدراسة ، وحَاولتُ مِراراً أنْ أُقنعه بمتابعةِ دراستةِ الجَامعية لكنّه رفضَ
كانَ لديهِ أسلوبه ورُؤيتهِ الخاصة في تنميةِ موهبتهِ ، والحمد للّه أنّه تميزَ بشيءٍ أحَبّه وأعطاهُ كُلَّ الإهتمامِ حتى تَميزَ بِه.
– حَقاً ليلى مُعظم الآباء والأمَّهَات نجهدُ أنفسنا بإقناعِ أولادنا على سلوكِ طريقٍ نجدهُ الأنسب ، وربَّما يكونُ اختيارهم الأفضل .
تبادلا أطرافَ الحديثِ حتى آخر رشفاتِ القهوةِ ، وانشغلَ كلّ منهما بإكمالِ عَملهِ .
في المساءِ ..
الجَوّ قارس البرودةِ في الخَارجِ ، وبعدَ عشاءٍ خَفيفٍ لذيذٍ ، اجتمعَ افرادُ العائلةِ حَولَ الموقدِ يحتسونَ الشّاي ، لكنْ كلٌّ مشغولٌ بخصوصيتهِ ..
الأمُّ تُكملُ حياكةِ آخرَ قطباتٍ مِنْ شالِ الصوفِ المُكملِ لقبعةِ الأبّ ، لتبدأ بحياكةِ كنزةٍ لسامي .
الأبُّ مُندمجٌ بقراءةِ كتابٍ كعادتهِ
أمَّا سَامي ومُهنَّد ، فهما مَشغولان بمتابعةِ بعض الأخبارَ والبرامجَ عبرَ مواقعِ التواصلِ الإجتماعي ، فهمَا كغيرهما مِنْ شبابِ هذا الجيل يَهتمانِ بمتابعةِ مواقعِ الأنترنت للعمل أو لقراءةِ أخبار أو لشؤنٍ ثقافيةٍ أو أدبية .
– يَلتفتُ مُهنّد لوالدهِ قَائلاً :
أبي أليسَ الأفضلُ لكَ أن تقرأَ مَا تريد عن طريقِ مواقعِ الإنترنت ، فالمجالُ أوسعَ أمامكَ للبحثِ عنْ أيَّ موضوعٍ أو كِتابٍ .
– نعمْ أبي (يتدخلُ سامي على الفور ) ويتابع : أنا معَ مُهنَّد فهو الطريقُ الأسرعَ والأسهلَ للقراءةِ والبحثِ عن طريقِ الحاسوبِ خاصتكَ .
السَيّد أنور يُصغي لرأي ولديهِ بكلِ تَمعنٍ ، و لوهلةٍ شَعرَ أنَّ الكتابَ بينَ يديه أمَسى بثقلِ ريشةِ عصفورٍ وسقطَ أرّضَاً .
– أرجُوكما اسمعاني جيداً ( قال لولديهِ وهو يتناولُ الكتابَ عن الأرّضِ ) ويُتابع ..
أنا لا أنكرَ أبداً أهميةَ الحداثةِ ومواكبةِ التطور العلمِي والتِقني في حياتِنا وتقدمنا وسرعةِ انتقالِ المعلومةِ عن طريقِ الانترنت للمُتَلَقي ..
لكنّه كالسّلاح ذو حَدين ، علينا أن لا ننسى أنَّه عالم افتراضي ، كمَا لهُ إيجابياتٍ متعددةٍ ، كذلكَ له سلبياتٍ كثيرةٍ ، فمَنْ يَعلم مدى ديمومةِ استمرارهِ ، هَلْ تضمنانِ أنَّ وسائلِ التواصلِ هذه لنْ تختفي يَوماً مَا .. ( يَفتحُ الكتابَ الورقيّ بينَ يديهِ ويُكمل حديثه ) ..
بالنسبةِ لي تعودتُ التعاملَ معَ الكتابُ الورقيِّ منذُ صغرِ سنّي وحتى اليومَ ، وجدتُ فيهِ متعة لا يُضاهِيها كلّ مواقعِ الإنترنت .
عزيزاي : إنَّ الكتابَ الورقيّ لَهُ وقع خاص على الروحِ ، فمنذُ أنْ تلمس الورقَ بيديك ، حتى تبدأَ قراءتهِ ، إلى أنْ تسترسلَ بمُتعةِ السردِ ، فتسرقكَ السطورُ ومَا بينها ، لتغوصَ بعمقِ التفاصيلِ وأنتَ تحضنَ الكتابَ فيأخذ الورقَ مِنْ دفءِ يديكَ ويَمنحكَ دفئاً روحِياً ورِضَاً وأماناً .
أتعلمان ؟
لمْ أجدْ هذا الإحساسَ أبداً في القراءةِ الإلكترونيةِ حينَ جربتها .
– عذراً أبي ، أنا أفضلُ القراءة الإلكترونية ، أجِدها أسرعَ للتصفحِ والبحثِ ، وتُناسبُ وقتي أكثر ( أجابه مُهنّد )
– حسناً يا بني ، أحترمُ وجهة نظركَ أنتَ وسامي ، قَدْ أُحَاول في الأيامِ المقبلة ، ولي قناعتي أنّي سَأبقى أُفَضلَ الكتابَ الورقي .
كَانتْ ليلى تُكملُ حِياكةِ الصّوفِ ، وأذنِيها صَاغيتانِ للحديثِ ، فتقول :
– أنا مَعَ رأي والدكمَا
– يا سَلام يا أُمّي ، مِنَ المُؤكد ستكونينَ معَ رأيهِ. ( رد سامي ضاحكاً ، فيبتسمُ الأبُّ ابتسامةَ الرضى )
– هذهِ قناعتي الشَخصية يا بني (ردت الأم )
ولا تنسى لو حدثَ عِطلاً مَا في تلكَ المواقعِ فَكمْ سَتتعطلُ مَعها أعمالٍ ومصالحٍ للناسِ .
– هههه ستضعينَ حججاً كثيرةً لمساندةِ رأي أبي ، فلا تُصعبي الموضوعَ أكثرَ يا أمّي ( رد مهند )
تبتسمُ ليلى نِصفَ ابتسامةٍ مَعَ نظرةِ أمٍّ لطفليها ، كأنَّها تقولُ في سرِّهَا : كَبرتما لكنْ مَا زالتْ خبرتكما في الحياةِ ضَحلة.
تَمرُ الأيّام بسرعةٍ وعائلةِ السّيد أنور تُتابع حياتها بشكلٍ طبيعيٍّ ، وكلٍّ مشغول بعملهِ .
والسَّيدة ليلى تقوم بدورها كأمٍّ وسيدة بيتٍ بكلِ الرضى والمحَبّة ، إذْ هيَ استقالتْ مِنْ وظيفتها من المركزٍ الطبيٍّ في بلدتها ، وفضَّلت التفرغَ الكاملَ لعائلتها منذُ كانَ ولديها في سنِ الدراسةِ الإبتدائيةِ ، كانتْ تقولُ وجدتُ سَعادتي بإسعَادهم .
في صباحِ يومٍ جديدٍ ، توَجهَ السيد أنور لزيارةِ ابنهِ في مرسَمهِ الخاص ، وقد ذُهِلَ برؤيةِ أعمالِ الفنانِ الموهوب مُهنّد ، أُعجبَ الوالدُ بجرأةِ الأفكارِ وضرباتِ الريشةِ واللمساتِ الرائعة لكلّ لوحةٍ ، فقد رسمَ الوطن والطبيعة بأبهى الحللِ ، كَما رسمَ الطفولةَ والمرأة والكثيرَ مِنَ الحالاتِ الإنسانيّةِ ،
وكانتْ المُفاجأة الأكبر هي لوحة بمنتهى الروعةِ والإبداعِ للسيدِ أنور وزوجتهِ ليلى .
تَمَعنَ بِها كثيراً وقالَ : اللوحة تكادُ تنطقَ يا بني ، كَمْ أنا فخورٌ بكَ .
في هَذهِ الأثناء ، تَدخلُ صبيّةٍ جميلةٍ وجذابة ، تبدو في بداية العشرينِ مِنْ عُمرها ، تُلقي السّلامَ وتقفُ أمامَ أحدِ اللوحاتِ .
– أنجيلا تَعالي أُعرّفك على والدي (قالَ مُهنّد للصبيّة )
تقتربُ منهمَا وتبدو على وجهها ملامحَ الخجلِ من احمرارِ وجنتيها .
– أهلاً بكِ يا بنتي ( قالَ لها السّيد أنور )
– أهلاً بكَ عمي ، كيفَ حَالك ؟
بخيرٍ الحمدللّه ( رد عليها )
يُقاطعهم مُهنّد : أبي هذهِ صديقتي أنجيلا ابنة العَمّ أبو فَادي جِيراننا في الحَيِّ ، لقَدْ عادوا مِنَ السّفرِ منذُ مدةٍ ، ألمْ تَذكرها ؟ كانتْ في صفي أيام المدرسة
– بَلى يا مهند ، أذكرها كانت صغيرة ، ماشاءَ اللّه أصبحتْ شابةً جميلةً .
الحمدللّه على سلامتكم ، وكيفَ حالُ الأهلِ يا عَمّي ؟
– الكُلّ بخيرٍ ياعمي ، سرّرتُ برؤيتكَ ( ردت أنجيلا )
– وأنا سعيدٌ برؤيتكِ يا بنتي ، أبلغي سَلامي للأهلِ وإنْ شاءَ اللّه سنزوركم في البيتِ قَريبَاً .
شَعرَ السّيد أنور أنَّ عليه اختصار زيارتهِ ، فاستأذنَ بعدَ أنْ أشادَ بجهودِ مُهنّد في التحضيرِ للمعرض و إتقانِ عملهِ ، وشكره على هديةِ الّلَوحةِ الرائعةِ.
– فرصة سعيدة أنجيلا ( قال أنور )
شكراً ياعمّي ، فرصة سعيدة ( ردتْ عليه )
انصرفَ وهوَ يقولُ في قرارِ نفسهِ ، يَبدو أنَّ مُهنّد قَدْ سَبقَ أخاهُ الكبير ووجدَ فتاة أحلامهِ .
في المساء ..
كالعادةِ تجتمعُ العائلة حولَ مائدةِ العشاءِ ، وتبادلوا أطرافَ الحديثِ بما جرى معهم من أحداث و بمواضيعٍ شتى .
يَنتهي الأبُّ مِنْ تناولِ وجبةِ العشاءِ ، ولاَ يُخفي إبداءَ الثناء لزوجتهِ في مَهارتها بإعداد الطعامِ ، ويقولُ : نفسكِ فيهِ كل الطيبِ والبركةِ ، دمتِ لنا يا ليلى
– رضاكم يملأ قلبي بالسعادة ، دمتمْ لي يا غوالي (أجابته ليلى )
من ثُمَّ أكملَ السيد أنور سَهرتهِ بترتيبِ مكتبتهِ التي يُحِبّها وقَدْ أسماهَا بيتهُ الثاني .
– مهند ، سامي ، تعالا ( ناداهما الوالد )
كانا كالعادة يتصفحا مواقع الإنترنت .
– نعم أبي ( قالَ مُهنَّد ووقفَ بِجانبهِ )
– هَلْ تريد مُساعدة يا أبي ( قالَ سَامي ووقفَ بجانبه أيضاً )
عزيزايَّ ، أصغيا لكلامي جَيداً ، وهوَ يُشيرُ بيدهِ إلى المكتبةِ
هوَ ذَا كَنزي الثمين ، هذهِ المكتبةُ حصيلةٍ فكريةٍ وأدبيةٍ ، لا يُستهان بِها ، جَمَعتها خلالَ سنينَ عُمري ، كنتُ كُلما استطعتُ توفيرَ بعضَ النقودِ ، أشتري بِهَا كِتابَاً
يُكملُ السّيد أنور حديثهُ ..
– تجدونَ في مكتبتي ، شَتَى أنواعِ الكتبِ القيّمةِ ، مُنوعةً مَابينَ كتبٍ ثقافيةٍ ، ومجلداتٍ في البحوثِ العلميةِ ، والكتب القانونيةِ و الدينيةِ والأدبيةِ مِنْ رواياتٍ رائعةٍ وقصصٍ كثيرة فيها المتعة والعِبَر ، ودواوينَ شعرٍ ونثرٍ لشعراءَ وكتّابٍ كُثر ، فهي غنية بالأدبِ العربيِّ والعالميِّ .
لقد عشتُ معَ هذهِ المَجموعة الورقية أوقاتاً رائعةً، أعطيتها من وقتي فأعطتني الكثير من المعرفة والحكمة ، ولن أندمْ على رفقتها أبداً .
سامي ومُهَنَّد في هذهِ الأثناء ، يُعطيانِ كلَّ الإهتمامِ ويُنصتانِ لكلِّ كلمةٍ يقولها الوالدُ .
– عزيزاي لنْ أطيلَ أكثر ، فَقطْ أريدُ منكما إعطاءَ القليل مِنَ الوقت للإهتمامِ بمحتوى مكتبتي ، وسَتجدونَ فَرقاً شاسعاً فيما بعد بينَ تصفحِ كتابٍ ورقيٍّ وآخرَ إلكتروني .
– أعدكَ أبي سَأخصصُ وقتاً لذلكَ (قالَ سامي )
– وأنا كذلكَ أعدكَ بالإهتمامِ بكنزكَ الثمين أبي ( قالَ مهند )
وانصرفا ..
ليكملَ الوالدُ توضيبَ مكتبتهِ كَما يُحبّ .
بعدَ مرورِ عدةِ أيامٍ ، تَشكو السّيدة ليلى مِنْ أعراضٍ صحيّةٍ ، لكنّها تُخفي الموضوع عن عَائلتها كي لا تشغلهم بها .
بالأمسِ زارت دكتور العائلة وشرحتْ لهُ الأعراضَ التي شَكت منها في الآونةِ الأخيرةِ مِنْ دوارٍ وإعياءٍ ، فطمنَها بعدَ الفحصِ العام ، وطلبَ مٍنّها بعضَ التحاليلِ الطبية للتأكد من سلامتها أكثر .
هذا الصباح ، قَصدت السَّيدة ليلى مَخبر التَحاليلِ الطبية في الحيِّ ، وعملت ما طلبهُ الدكتور مِنْ تحاليل ، ولَمْ يكنْ لديها وقتٍ كافٍ لانتظارِ النتائجِ ، فعادت إلى البيتِ تحملُ بعضَ الحاجياتِ لمطبخها .
في وقت الظهيرة ..
يفتحُ مُهنّد بابَ البيتِ بمفتاحهِ ويدخلُ على عَجَلٍ ، مُرتَبكَ الملامحِ .
– أبي مَا وضعُ أمّي ؟
لماذا لمْ تُخبراني ؟
أيُعقل أنْ أعرفَ مِنْ صديقي الدكتور وائل المخبري بالصدفة أنَّ لأمّي تحاليلاً جاهزةً عنده .
بدت علائمَ الدهشةِ على وجهِ الوالد حينَ سمعَ كلامَ مُهَنّد .
– ماذا تقول يا بني ؟
أنا مثلكَ تَماماً الآن حتى علمتُ منكَ ، هي لمْ تُخبرني بشيء !
يُحدقانِ ببعضهما لحظة دونَ أي كلمة ، ويَدخلان المطبخ ، حيث كانت ليلى تَغسل الأطباق وتُجهز طعامَ الغداء .
– ليلى مَاذا بكِ ؟ ما اللذي يَحدث معكِ ؟ كيفَ تخفينَ عنَّا أنكِ مريضة ؟ ( هكذا وابل من الأسئلة وبلهجة عتب يسألها أنور )
– حقاً يا أمّي مَا وضعكِ الصحي؟ أيعقلَ أنْ تُخفي عَنْ عائلتكِ ؟
(كذلكَ بلهجةِ عتبٍ يسألها مهند )
– يا عيوني لا تقلقوا ، كنتُ سأخبركم ريثما أخذُ التَحاليل للدكتور ، فقط أردتُ عدمَ إشغالكم وقد طمنني الدكتور .
في صباحِ اليومِ التالي ..
يصطحبُ السّيد أنور زوجتهِ لعيادةِ دكتور العائلةِ ياسر ، بعدَ أخذِ التحاليل منَ المخبر .
وفي العيادة ..
– طمنّي دكتور ، ما وضعُ ليلى ( سألهُ أنور )
بعدَ اطلاعِ الدكتور على نتائجِ التحاليلِ بدقةٍ ، أجابه :
– هو انخفاضٌ واضحٌ في معدلِ خِضابِ الدّم ، مِّما سَببَ لكِ هذا الدوار والشعور بالإعياءِ .
سأصفُ لكِ الدواءَ المناسبَ ولا داعي للقلقَ أبداً .
– شَكَرا الدكتور ، وعَادا إلى البيتِ بارتياحٍ بعدَ الإطمئنانِ عن صِحَة سيّدة العائلة الحَنونة .
لكنْ كانَ لسامي عتباً كبيراً عليهم ، حينَ عادَ في المساءِ ، لأنّه آخرُ مَنْ يَسمعَ بالقصةِ .
هكذا هي طِباعهم عامرة بالخيرِ والطيبةِ ، تعودوا في وقتٍ الشدّةِ أنْ يكونوا سّنداً لبعضهم ، فبذرةُ الخيرِ التي زرعاها الوالدانِ في تربيةِ أبنيهما ، أينعتْ وأصبحتْ شجرة دائمةَ الخُضرة .
بعدَ مرورِ يومين ..
وقت الظهيرة ، تُطلُ أشعة الشّمس خجولة ، كأنّها تُلقي السّلامَ و تغيبُ وراءَ الغيوم ، فتعكس بعضَ النّور على وجهِ ليلى وهيَ تَجمع الملابس عن الحبلِ في شُرفةِ المنزلِ .
تَحملُ ليلى سّلَة الملابسِ وتدخل إلى صالون البيت ، تجلسُ وتطوي قطع الملابسِ كلٍّ على حِدى .
لقدْ أثارَ انتباه ليلى ، أنَّ أنور لَمْ ينتبه لخروجها إلى الشّرفة ، ولا أثناء عودتها ، ولا حَتى لجلوسها في الصَالون ..
يَبدو أنّه مُنسجماً جداً بالكتابة على دفترٍ وضعهُ أمامهُ على الطاولةِ .
تقتربُ ليلى نَحوهُ بهدوءٍ
– أنور بماذا أنتَ مشغولٌ لهذه الدرجة ؟
– حَسناً حبيبتي سَأخبركِ :
بعدَ تفكيرٍ طويلٍ ، قررتُ أنْ أكتبُ مذكراتي ، رحلةَ حياتي منذُ كنتُ طفلاً يتيم الأبِّ ، وكيف تربيتُ بظروفٍ صعبةٍ، وانا أدرس وأتعلم وكيفَ نجحت في حياتي ، أريد أن أفيدَ كلَّ مَنْ يَقرأني .
– أشجعكَ على ذلكَ يا أنور ( ردت عليهِ وهي تربتُ على كتفهِ )
تمضي الأيام ..
وأنور يُعطي حَيّزاً كبيراً مِنْ وقتهِ لكتابةِ مذكراتهِ .
وفي تلكَ الفترةِ ، افتتحَ مُهنّد معرضهِ الفَنّي ،وقد لقىَ صداً كبيراً مِنْ قِبلِ الصَحافةِ والإعلامِ والمُهتمين بالفنِ والرسمِ .
مشاعرُ الأهلُ بقمةِ الفخرِ بِمَا أنجزَ ولدهم ، أمَّا مُهند فقد اكتملتْ فرحتهِ بارتباطهِ بأنجيلا التي أحَبّها .
اليوم ..
وبَعدَ مرورِ عدّةِ سنواتٍ ، الوقتُ فصلُ شتاءٍ و يبدو أنّه الأكثر برودة على العائلة .
الأمُّ تَجلسُ بالقربِ منْ موقدِ الحَطبِ ، وتضعُ نظاراتها الطُبيّة ، وبينَ يديّها قطعةُ صوفٍ منَ العامِ الماضي لمْ تُكمل حياكتها بعد ، تُحاولُ أنْ تُنهيها الآن ..
وهي المرةُ الأولى التي تتقاعس بها عَنْ شغلِ الصوفِ الذي تُحبّهُ .
– أمّي ، هَلْ أخذتِ دَواءَ الضغطِ والسُّكَر ( سَألها سَامي ) .
– نَعم يا بُني ( تُجيبهُ بصوتٍ خافتٍ )
– لقدْ صنعتُ لكِ كُوباً مِنَ الشّاي بالنعناعِ الذي تُحبينهُ ، ( يضعه أمَامها على الطاولة ) .
يَعلو ضَجيجُ الأولاد في أرجاءِ البيتِ ، مَعَ صنعِ بعض الفَوضى بالألعابِ المُبعثرةٍ هُنا ، وهُناك ..
إنَّها أصواتُ حفيداها ، ابن مُهنّد ، كنانُ الشقي الجميل ، وَ رشَا الحلوة بنتُ سَامي .
كانا يَملآن البيتَ شقاوةً ومَرحاً.
أمّا مُهنَّد ..
– يجلسُ الآن في القسمِ الثاني مِنْ صالون البيتِ ، يُمسكُ بين يديهِ كِتاباً ، يَقرأهُ بشغفٍ وينسجمُ بهِ لدرجةِ ينسى كل شيءٍ حولهُ .
يتمعنُ بكلِّ ورقةٍ مِنَ الكتابِ برويةٍ ، يتحسسهَا بينَ أناملهِ قبلَ أنْ يقرأهَا ، ويتذكرُ كلامَ والده حينَ أخبرهُ هوَ وسَامي أنَّ الكتابَ الورقيّ لهُ وقعٌ خاصٌ على الروحِ ، ينتابكَ شعورٌ ساحرٌ يشدكَ منذُ قراءةِ السطورِ الأولى ، إلى أنْ تَسرقكَ الأحداث وتغوصُ بعمقِ التفاصيلِ ، وتُحلّلُ مَابينَ السطورِ ، لتشعرَ أنكَ جزءً من هذا العالم الورقيّ الغامض الرائع.
توقفَ مُهنّد لحظة عنْ القراءةِ ، حينَ ثَقلَ الدّمعُ في عينيهِ ، وهوَ يحضنُ هذا الكتاب الغَالي جداً على قلبهِ ، والثمين جداً بقيمتهِ الفكريةِ والمعنويةِ ، إنَّها مُذكرات والدهُ السّيد أنور .
يكادُ مُهنَّد الآن يتحسسَ وجهَ والده المُشرق يبتسمُ لهُ ، ويشعرُ لوَهلةٍ بأنَّ الورقَ يَنثرَ رائحةَ عطرهِ في أرجاءِ البيتِ ، كأنَ ذكرياته نهضت من عالم الورق ، لتبعث الأمان والدِّفء الذي افتقدوه واشتاقوه جميعاً في البيت برحيل الوالد منذُ عامٍ .
– غـانـا أسعد -” ذاكرة الوَرق ”
تبدأُ رائحةُ القهوةِ التسللَ إلى أرجاءِ البيتِ الصغيرِ الدافئِ ، فالمَوقِدُ مُشّتَعلٌ منذُ الصباحِ الباكرِ ، وصوتُ طقطقةِ الحَطَبِ يَختلطُ بصوتِ رَشقَاتِ المَطَرِ التي تَضربُ زُجاجَ النّوافِذِ .
البيتُ المُرتب بذوقٍ رفيعٍ وبساطةٍ ملفتةٍ ، فألوانُ الأسّاسِ هَادئةٍ مُتناغِمةٍ معَ ديكور البيت ومعَ الزهور الناعمةِ المُوزعةِ بانتقاءٍ مَدروسٍ ، كلُّ رُكنٍ فيهِ يُوحي للناظرِ باكتسابِ طاقةٍ إيجابيةٍ .
صوتٌ رقيقٌ يُنادي :
– يَا أنور ، أينَ أنتَ ؟
القهوةُ جاهزة تنتظركَ ( قالت أمُّ سامي لزوجها )
– أنا قادمٌ يا ليلى ، اسّكبيها ريثمَا أدخُلَ .
تقفُ ليلى بِمدخلِ البيتِ وتَسألهُ :
ماذا كنتَ تعملُ في الخارجِ ؟
لقد تبلّلتْ ثيابكَ بالمطرِ !
– يا عَزيزتي كُنتُ أُقَطِّع بعضَ الحَطبِ ، فالبردُ قارسٌ سَنَحتاجهُ لبقيةِ اليوم ، يَبدو هَذا الشِّتاءَ قاسِّياً يَا ليلى .
– حَسَناً عَزيزي ، بَدِّلْ ثِيَابكَ كي لا تَمرضْ ، رَيثَما أُسَخِنُ رَكوةَ القهوة لقد بَرَدَتْ .
خَلعَ أنور حِذَاؤه في مدخلِ البيتِ ، وكذلكَ قبعتهِ الصوفيةِ المبلّلةِ بِماءِ المَطَرِ ، لِيَظهرَ بعضُ الشَّعرِ الأبيضِ المتناثرِ بعبثيةٍ على رأسه .
لكنَّهُ كانَ فخوراً أنّهُ ما زالَ يَحتفظُ بِقامَتِهِ الشَّامِخةِ وعرضَ كَتفيهِ، حتى مَعالمُ وجههُ مَازالتْ تَحتفظُ بِشيءٍ مِنَ النضارةِ رغمَ سنينَ العُمّرِ ، فهو يَهتمُ بصحتهِ ونوعيةِ غذائهِ ، ويُثابرُ على رياضةِ المَشيِّ مُعظم الأَيّام معَ ليلى .
السَّيدُ أنور تَجَاوزَ العَقدَ السَادسَ مِنَ العمرِ بعامين ، يَحملَ إجازةً في الدراساتِ القانونيةِ و عَمِلَ مُوَظفاً لسنينَ طويلةٍ في أحدِ دوائرِ الدّولةِ للشؤونِ القانونيةِ.
وقد أُحِيلَ للتقاعد لبلوغ السن القانونية .
لذا يُقَرّر أنْ يُشغل نفسه كي لا يقعَ في فَخِ المَلل ، وليَملأَ وقتَ فراغهِ بِمَا يُحبُّ مِنْ هِواياتٍ قديمةٍ ، كالقراءةِ بالدرجةِ الأولى فهو يملكُ مجموعةٍ قَيِّمةٍ مِنَ الكتبِ في مكتبتهِ الخاصة .
ويُتابعَ بعضَ الأخبارِ والبرامجَ العلميةِ ، والثقافية ، على التلفاز و قليل من المسلسلات مع ليلى .
كذلكَ قرّرَ أنْ يُعطي حَيِّزاً مِنْ وقتهِ للإعتناءِ بحديقةِ المَنزلِ الصغيرةِ ، فيزرعُ بعضَ أنواعِ الخضارِ ويعتني كذلكَ بالورودِ الخاصة بزوجتهِ .
وطَبعاً ليلى تُبدي سَعادتها بهذهِ المبادرةِ الثمينةِ مِنّهُ.
هي تحترمهُ كثيراً ، فهوَ الزوج النبيلُ والأبُّ المِثالي ، يهتمُ بأصغرِ التفاصيلِ لحياةِ أسّرتهِ المؤَلفةِ من أربعةِ أشخاصٍ ، هو وليلى و ولديهما الشابانِ ، المهندسُ المدنيِّ سَامي ، ومُهنّد الذي يَصغرهُ بعامينِ ، لكِنَّه لم يُكمل دراستهِ الجامعيةِ كأخيهِ فهو على حَدِّ قَولهِ لا يُحبُّ الدّراسة .
كانَ يهوى الموسيقا والرسم ،
كان يتلقى بعض دروس الرسم عند فنانٍ قديمٍ مشهورٍ في بلدته
فتأثر بأسلوبه ، وأبدعَ في الرسمِ أكثر .
أمَّا ليلى الأُمُّ الحنونُ الرائعة ، هي تَصغرُ أنور بعقدٍ من الزمن ، تزوجا بعدَ قِصَّة حُبٍّ جَميلةٍ ، ومَا زَالاَ يَحتفِظَانِ بِذاكَ الحُبَّ الذي أمَسا نَادراً في هذا الزمنِ ، ذاكَ الحُبّ الذي طالمَا اتفقا أنَّ سببَ استمرارهِ هوَ الإحترامُ الكبيرُ المتبادلِ بينهُمَا .
تُحبُّ ليلى أنْ تتباهى أمَامَ أنور أنّها مَا زالتْ جَميلة وبَشرتها ناعِمَة ، وأنَّ التَجاعيدَ لمْ تغزوا وجهها كغيرها مِنْ نساءِ جيلها ، شَعرها الكَستنائيّ الهَادىء مَازالَ يَحتفظُ بكثافتهِ ورونقهِ ، لكنّها تستعيدُ الّلونَ في صالونِ التَجميلِ كُلمَا لاحَ شعرٌ أبيض .
ليلى المُرَتبة ، المَرحة ، أنيقةٌ في هِندامها و بيّتها ، وتربيتها لولدِيها وحتى في عَلاقَاتها الإجتماعية.
سَخَنت ليلى القَهوة ، سَكَبت فُنجَاناً لأنور ..
– تَفضلْ عَزيزي اشربْهَا سَاخنة تمنحكَ بعضَ الدِّفءِ ، واقتربْ مِنَ المَوقدِ قليلاً .
يَرشفها أنور عَلى عَجَلٍ ، ويَأخُذ نفسَاً عَميقاً
– اللّه .. مَا أطيبها ، كَمْ أُحِبُّ مَذَاقَ قَهوتكِ يَا ليلى .
– صَحة وهَنا حَبيبي (بابتسامةٍ يَعلوها التَفاخرَ ، أجَابته )
– ليلى أتَعلمينَ أنَّ مهنَّد طلبَ منّي زيارته في مرسمه ؟
يُريد أنْ أُعطيه رأيي بأعمالهِ قبل افتتاحِ معرضهِ ، ويقولُ أنَّه عاتبٌ عليَّ فمنذُ مدة لمْ أقصدهُ في المرسم .
– حسناً تفعلَ عزيزي ، إنّه مُدرك لذائقتكَ الفنية ويريدُ نصيحتكَ ( أجابته ليلى )
تأخذُ رشفةَ قهوةٍ و تتابع ..
نَسيتُ أنْ أُخبركَ مِنذُ يومين ، كنتُ أتسوقَ بعضَ الحَاجياتِ ومرَّرتُ بالقربِ مِنْ مَرسمه ، فخطرَ لي أنْ أزوهُ ، لقد سرَّ كثيراً بي ، كما سررت أنا برؤيةِ أعمالهِ الجديدةِ ، إنَّه مدهش حقاً .
– أنا سعيدٌ جداً بذلكَ ( يُجيب أنور و يهزُ رأسه بعلائمِ الرِّضى )
في هذه الأثناء ، يُحركَ أنور الحطبَ في الموقدِ ويُقلِّب حَبَّات البطاطا والكستناء اللاتي وضعتها ليلى قَبلَ قليلٍ ، ويُكملُ قائلاً :
– أتذكرينَ يا عزيزتي كَم كُنّا نَلومهُ على التقصيرِ في دراستهِ ونحاولُ إجبَارهِ على أختيارِ فرع في الجامعةِ نجدهُ مُناسباً لكن دونَ جَدوى .
– نعم لقد كانَ عَكسَ سَامي في الدراسة ، وحَاولتُ مِراراً أنْ أُقنعه بمتابعةِ دراستةِ الجَامعية لكنّه رفضَ
كانَ لديهِ أسلوبه ورُؤيتهِ الخاصة في تنميةِ موهبتهِ ، والحمد للّه أنّه تميزَ بشيءٍ أحَبّه وأعطاهُ كُلَّ الإهتمامِ حتى تَميزَ بِه.
– حَقاً ليلى مُعظم الآباء والأمَّهَات نجهدُ أنفسنا بإقناعِ أولادنا على سلوكِ طريقٍ نجدهُ الأنسب ، وربَّما يكونُ اختيارهم الأفضل .
تبادلا أطرافَ الحديثِ حتى آخر رشفاتِ القهوةِ ، وانشغلَ كلّ منهما بإكمالِ عَملهِ .
في المساءِ ..
الجَوّ قارس البرودةِ في الخَارجِ ، وبعدَ عشاءٍ خَفيفٍ لذيذٍ ، اجتمعَ افرادُ العائلةِ حَولَ الموقدِ يحتسونَ الشّاي ، لكنْ كلٌّ مشغولٌ بخصوصيتهِ ..
الأمُّ تُكملُ حياكةِ آخرَ قطباتٍ مِنْ شالِ الصوفِ المُكملِ لقبعةِ الأبّ ، لتبدأ بحياكةِ كنزةٍ لسامي .
الأبُّ مُندمجٌ بقراءةِ كتابٍ كعادتهِ
أمَّا سَامي ومُهنَّد ، فهما مَشغولان بمتابعةِ بعض الأخبارَ والبرامجَ عبرَ مواقعِ التواصلِ الإجتماعي ، فهمَا كغيرهما مِنْ شبابِ هذا الجيل يَهتمانِ بمتابعةِ مواقعِ الأنترنت للعمل أو لقراءةِ أخبار أو لشؤنٍ ثقافيةٍ أو أدبية .
– يَلتفتُ مُهنّد لوالدهِ قَائلاً :
أبي أليسَ الأفضلُ لكَ أن تقرأَ مَا تريد عن طريقِ مواقعِ الإنترنت ، فالمجالُ أوسعَ أمامكَ للبحثِ عنْ أيَّ موضوعٍ أو كِتابٍ .
– نعمْ أبي (يتدخلُ سامي على الفور ) ويتابع : أنا معَ مُهنَّد فهو الطريقُ الأسرعَ والأسهلَ للقراءةِ والبحثِ عن طريقِ الحاسوبِ خاصتكَ .
السَيّد أنور يُصغي لرأي ولديهِ بكلِ تَمعنٍ ، و لوهلةٍ شَعرَ أنَّ الكتابَ بينَ يديه أمَسى بثقلِ ريشةِ عصفورٍ وسقطَ أرّضَاً .
– أرجُوكما اسمعاني جيداً ( قال لولديهِ وهو يتناولُ الكتابَ عن الأرّضِ ) ويُتابع ..
أنا لا أنكرَ أبداً أهميةَ الحداثةِ ومواكبةِ التطور العلمِي والتِقني في حياتِنا وتقدمنا وسرعةِ انتقالِ المعلومةِ عن طريقِ الانترنت للمُتَلَقي ..
لكنّه كالسّلاح ذو حَدين ، علينا أن لا ننسى أنَّه عالم افتراضي ، كمَا لهُ إيجابياتٍ متعددةٍ ، كذلكَ له سلبياتٍ كثيرةٍ ، فمَنْ يَعلم مدى ديمومةِ استمرارهِ ، هَلْ تضمنانِ أنَّ وسائلِ التواصلِ هذه لنْ تختفي يَوماً مَا .. ( يَفتحُ الكتابَ الورقيّ بينَ يديهِ ويُكمل حديثه ) ..
بالنسبةِ لي تعودتُ التعاملَ معَ الكتابُ الورقيِّ منذُ صغرِ سنّي وحتى اليومَ ، وجدتُ فيهِ متعة لا يُضاهِيها كلّ مواقعِ الإنترنت .
عزيزاي : إنَّ الكتابَ الورقيّ لَهُ وقع خاص على الروحِ ، فمنذُ أنْ تلمس الورقَ بيديك ، حتى تبدأَ قراءتهِ ، إلى أنْ تسترسلَ بمُتعةِ السردِ ، فتسرقكَ السطورُ ومَا بينها ، لتغوصَ بعمقِ التفاصيلِ وأنتَ تحضنَ الكتابَ فيأخذ الورقَ مِنْ دفءِ يديكَ ويَمنحكَ دفئاً روحِياً ورِضَاً وأماناً .
أتعلمان ؟
لمْ أجدْ هذا الإحساسَ أبداً في القراءةِ الإلكترونيةِ حينَ جربتها .
– عذراً أبي ، أنا أفضلُ القراءة الإلكترونية ، أجِدها أسرعَ للتصفحِ والبحثِ ، وتُناسبُ وقتي أكثر ( أجابه مُهنّد )
– حسناً يا بني ، أحترمُ وجهة نظركَ أنتَ وسامي ، قَدْ أُحَاول في الأيامِ المقبلة ، ولي قناعتي أنّي سَأبقى أُفَضلَ الكتابَ الورقي .
كَانتْ ليلى تُكملُ حِياكةِ الصّوفِ ، وأذنِيها صَاغيتانِ للحديثِ ، فتقول :
– أنا مَعَ رأي والدكمَا
– يا سَلام يا أُمّي ، مِنَ المُؤكد ستكونينَ معَ رأيهِ. ( رد سامي ضاحكاً ، فيبتسمُ الأبُّ ابتسامةَ الرضى )
– هذهِ قناعتي الشَخصية يا بني (ردت الأم )
ولا تنسى لو حدثَ عِطلاً مَا في تلكَ المواقعِ فَكمْ سَتتعطلُ مَعها أعمالٍ ومصالحٍ للناسِ .
– هههه ستضعينَ حججاً كثيرةً لمساندةِ رأي أبي ، فلا تُصعبي الموضوعَ أكثرَ يا أمّي ( رد مهند )
تبتسمُ ليلى نِصفَ ابتسامةٍ مَعَ نظرةِ أمٍّ لطفليها ، كأنَّها تقولُ في سرِّهَا : كَبرتما لكنْ مَا زالتْ خبرتكما في الحياةِ ضَحلة.
تَمرُ الأيّام بسرعةٍ وعائلةِ السّيد أنور تُتابع حياتها بشكلٍ طبيعيٍّ ، وكلٍّ مشغول بعملهِ .
والسَّيدة ليلى تقوم بدورها كأمٍّ وسيدة بيتٍ بكلِ الرضى والمحَبّة ، إذْ هيَ استقالتْ مِنْ وظيفتها من المركزٍ الطبيٍّ في بلدتها ، وفضَّلت التفرغَ الكاملَ لعائلتها منذُ كانَ ولديها في سنِ الدراسةِ الإبتدائيةِ ، كانتْ تقولُ وجدتُ سَعادتي بإسعَادهم .
في صباحِ يومٍ جديدٍ ، توَجهَ السيد أنور لزيارةِ ابنهِ في مرسَمهِ الخاص ، وقد ذُهِلَ برؤيةِ أعمالِ الفنانِ الموهوب مُهنّد ، أُعجبَ الوالدُ بجرأةِ الأفكارِ وضرباتِ الريشةِ واللمساتِ الرائعة لكلّ لوحةٍ ، فقد رسمَ الوطن والطبيعة بأبهى الحللِ ، كَما رسمَ الطفولةَ والمرأة والكثيرَ مِنَ الحالاتِ الإنسانيّةِ ،
وكانتْ المُفاجأة الأكبر هي لوحة بمنتهى الروعةِ والإبداعِ للسيدِ أنور وزوجتهِ ليلى .
تَمَعنَ بِها كثيراً وقالَ : اللوحة تكادُ تنطقَ يا بني ، كَمْ أنا فخورٌ بكَ .
في هَذهِ الأثناء ، تَدخلُ صبيّةٍ جميلةٍ وجذابة ، تبدو في بداية العشرينِ مِنْ عُمرها ، تُلقي السّلامَ وتقفُ أمامَ أحدِ اللوحاتِ .
– أنجيلا تَعالي أُعرّفك على والدي (قالَ مُهنّد للصبيّة )
تقتربُ منهمَا وتبدو على وجهها ملامحَ الخجلِ من احمرارِ وجنتيها .
– أهلاً بكِ يا بنتي ( قالَ لها السّيد أنور )
– أهلاً بكَ عمي ، كيفَ حَالك ؟
بخيرٍ الحمدللّه ( رد عليها )
يُقاطعهم مُهنّد : أبي هذهِ صديقتي أنجيلا ابنة العَمّ أبو فَادي جِيراننا في الحَيِّ ، لقَدْ عادوا مِنَ السّفرِ منذُ مدةٍ ، ألمْ تَذكرها ؟ كانتْ في صفي أيام المدرسة
– بَلى يا مهند ، أذكرها كانت صغيرة ، ماشاءَ اللّه أصبحتْ شابةً جميلةً .
الحمدللّه على سلامتكم ، وكيفَ حالُ الأهلِ يا عَمّي ؟
– الكُلّ بخيرٍ ياعمي ، سرّرتُ برؤيتكَ ( ردت أنجيلا )
– وأنا سعيدٌ برؤيتكِ يا بنتي ، أبلغي سَلامي للأهلِ وإنْ شاءَ اللّه سنزوركم في البيتِ قَريبَاً .
شَعرَ السّيد أنور أنَّ عليه اختصار زيارتهِ ، فاستأذنَ بعدَ أنْ أشادَ بجهودِ مُهنّد في التحضيرِ للمعرض و إتقانِ عملهِ ، وشكره على هديةِ الّلَوحةِ الرائعةِ.
– فرصة سعيدة أنجيلا ( قال أنور )
شكراً ياعمّي ، فرصة سعيدة ( ردتْ عليه )
انصرفَ وهوَ يقولُ في قرارِ نفسهِ ، يَبدو أنَّ مُهنّد قَدْ سَبقَ أخاهُ الكبير ووجدَ فتاة أحلامهِ .
في المساء ..
كالعادةِ تجتمعُ العائلة حولَ مائدةِ العشاءِ ، وتبادلوا أطرافَ الحديثِ بما جرى معهم من أحداث و بمواضيعٍ شتى .
يَنتهي الأبُّ مِنْ تناولِ وجبةِ العشاءِ ، ولاَ يُخفي إبداءَ الثناء لزوجتهِ في مَهارتها بإعداد الطعامِ ، ويقولُ : نفسكِ فيهِ كل الطيبِ والبركةِ ، دمتِ لنا يا ليلى
– رضاكم يملأ قلبي بالسعادة ، دمتمْ لي يا غوالي (أجابته ليلى )
من ثُمَّ أكملَ السيد أنور سَهرتهِ بترتيبِ مكتبتهِ التي يُحِبّها وقَدْ أسماهَا بيتهُ الثاني .
– مهند ، سامي ، تعالا ( ناداهما الوالد )
كانا كالعادة يتصفحا مواقع الإنترنت .
– نعم أبي ( قالَ مُهنَّد ووقفَ بِجانبهِ )
– هَلْ تريد مُساعدة يا أبي ( قالَ سَامي ووقفَ بجانبه أيضاً )
عزيزايَّ ، أصغيا لكلامي جَيداً ، وهوَ يُشيرُ بيدهِ إلى المكتبةِ
هوَ ذَا كَنزي الثمين ، هذهِ المكتبةُ حصيلةٍ فكريةٍ وأدبيةٍ ، لا يُستهان بِها ، جَمَعتها خلالَ سنينَ عُمري ، كنتُ كُلما استطعتُ توفيرَ بعضَ النقودِ ، أشتري بِهَا كِتابَاً
يُكملُ السّيد أنور حديثهُ ..
– تجدونَ في مكتبتي ، شَتَى أنواعِ الكتبِ القيّمةِ ، مُنوعةً مَابينَ كتبٍ ثقافيةٍ ، ومجلداتٍ في البحوثِ العلميةِ ، والكتب القانونيةِ و الدينيةِ والأدبيةِ مِنْ رواياتٍ رائعةٍ وقصصٍ كثيرة فيها المتعة والعِبَر ، ودواوينَ شعرٍ ونثرٍ لشعراءَ وكتّابٍ كُثر ، فهي غنية بالأدبِ العربيِّ والعالميِّ .
لقد عشتُ معَ هذهِ المَجموعة الورقية أوقاتاً رائعةً، أعطيتها من وقتي فأعطتني الكثير من المعرفة والحكمة ، ولن أندمْ على رفقتها أبداً .
سامي ومُهَنَّد في هذهِ الأثناء ، يُعطيانِ كلَّ الإهتمامِ ويُنصتانِ لكلِّ كلمةٍ يقولها الوالدُ .
– عزيزاي لنْ أطيلَ أكثر ، فَقطْ أريدُ منكما إعطاءَ القليل مِنَ الوقت للإهتمامِ بمحتوى مكتبتي ، وسَتجدونَ فَرقاً شاسعاً فيما بعد بينَ تصفحِ كتابٍ ورقيٍّ وآخرَ إلكتروني .
– أعدكَ أبي سَأخصصُ وقتاً لذلكَ (قالَ سامي )
– وأنا كذلكَ أعدكَ بالإهتمامِ بكنزكَ الثمين أبي ( قالَ مهند )
وانصرفا ..
ليكملَ الوالدُ توضيبَ مكتبتهِ كَما يُحبّ .
بعدَ مرورِ عدةِ أيامٍ ، تَشكو السّيدة ليلى مِنْ أعراضٍ صحيّةٍ ، لكنّها تُخفي الموضوع عن عَائلتها كي لا تشغلهم بها .
بالأمسِ زارت دكتور العائلة وشرحتْ لهُ الأعراضَ التي شَكت منها في الآونةِ الأخيرةِ مِنْ دوارٍ وإعياءٍ ، فطمنَها بعدَ الفحصِ العام ، وطلبَ مٍنّها بعضَ التحاليلِ الطبية للتأكد من سلامتها أكثر .
هذا الصباح ، قَصدت السَّيدة ليلى مَخبر التَحاليلِ الطبية في الحيِّ ، وعملت ما طلبهُ الدكتور مِنْ تحاليل ، ولَمْ يكنْ لديها وقتٍ كافٍ لانتظارِ النتائجِ ، فعادت إلى البيتِ تحملُ بعضَ الحاجياتِ لمطبخها .
في وقت الظهيرة ..
يفتحُ مُهنّد بابَ البيتِ بمفتاحهِ ويدخلُ على عَجَلٍ ، مُرتَبكَ الملامحِ .
– أبي مَا وضعُ أمّي ؟
لماذا لمْ تُخبراني ؟
أيُعقل أنْ أعرفَ مِنْ صديقي الدكتور وائل المخبري بالصدفة أنَّ لأمّي تحاليلاً جاهزةً عنده .
بدت علائمَ الدهشةِ على وجهِ الوالد حينَ سمعَ كلامَ مُهَنّد .
– ماذا تقول يا بني ؟
أنا مثلكَ تَماماً الآن حتى علمتُ منكَ ، هي لمْ تُخبرني بشيء !
يُحدقانِ ببعضهما لحظة دونَ أي كلمة ، ويَدخلان المطبخ ، حيث كانت ليلى تَغسل الأطباق وتُجهز طعامَ الغداء .
– ليلى مَاذا بكِ ؟ ما اللذي يَحدث معكِ ؟ كيفَ تخفينَ عنَّا أنكِ مريضة ؟ ( هكذا وابل من الأسئلة وبلهجة عتب يسألها أنور )
– حقاً يا أمّي مَا وضعكِ الصحي؟ أيعقلَ أنْ تُخفي عَنْ عائلتكِ ؟
(كذلكَ بلهجةِ عتبٍ يسألها مهند )
– يا عيوني لا تقلقوا ، كنتُ سأخبركم ريثما أخذُ التَحاليل للدكتور ، فقط أردتُ عدمَ إشغالكم وقد طمنني الدكتور .
في صباحِ اليومِ التالي ..
يصطحبُ السّيد أنور زوجتهِ لعيادةِ دكتور العائلةِ ياسر ، بعدَ أخذِ التحاليل منَ المخبر .
وفي العيادة ..
– طمنّي دكتور ، ما وضعُ ليلى ( سألهُ أنور )
بعدَ اطلاعِ الدكتور على نتائجِ التحاليلِ بدقةٍ ، أجابه :
– هو انخفاضٌ واضحٌ في معدلِ خِضابِ الدّم ، مِّما سَببَ لكِ هذا الدوار والشعور بالإعياءِ .
سأصفُ لكِ الدواءَ المناسبَ ولا داعي للقلقَ أبداً .
– شَكَرا الدكتور ، وعَادا إلى البيتِ بارتياحٍ بعدَ الإطمئنانِ عن صِحَة سيّدة العائلة الحَنونة .
لكنْ كانَ لسامي عتباً كبيراً عليهم ، حينَ عادَ في المساءِ ، لأنّه آخرُ مَنْ يَسمعَ بالقصةِ .
هكذا هي طِباعهم عامرة بالخيرِ والطيبةِ ، تعودوا في وقتٍ الشدّةِ أنْ يكونوا سّنداً لبعضهم ، فبذرةُ الخيرِ التي زرعاها الوالدانِ في تربيةِ أبنيهما ، أينعتْ وأصبحتْ شجرة دائمةَ الخُضرة .
بعدَ مرورِ يومين ..
وقت الظهيرة ، تُطلُ أشعة الشّمس خجولة ، كأنّها تُلقي السّلامَ و تغيبُ وراءَ الغيوم ، فتعكس بعضَ النّور على وجهِ ليلى وهيَ تَجمع الملابس عن الحبلِ في شُرفةِ المنزلِ .
تَحملُ ليلى سّلَة الملابسِ وتدخل إلى صالون البيت ، تجلسُ وتطوي قطع الملابسِ كلٍّ على حِدى .
لقدْ أثارَ انتباه ليلى ، أنَّ أنور لَمْ ينتبه لخروجها إلى الشّرفة ، ولا أثناء عودتها ، ولا حَتى لجلوسها في الصَالون ..
يَبدو أنّه مُنسجماً جداً بالكتابة على دفترٍ وضعهُ أمامهُ على الطاولةِ .
تقتربُ ليلى نَحوهُ بهدوءٍ
– أنور بماذا أنتَ مشغولٌ لهذه الدرجة ؟
– حَسناً حبيبتي سَأخبركِ :
بعدَ تفكيرٍ طويلٍ ، قررتُ أنْ أكتبُ مذكراتي ، رحلةَ حياتي منذُ كنتُ طفلاً يتيم الأبِّ ، وكيف تربيتُ بظروفٍ صعبةٍ، وانا أدرس وأتعلم وكيفَ نجحت في حياتي ، أريد أن أفيدَ كلَّ مَنْ يَقرأني .
– أشجعكَ على ذلكَ يا أنور ( ردت عليهِ وهي تربتُ على كتفهِ )
تمضي الأيام ..
وأنور يُعطي حَيّزاً كبيراً مِنْ وقتهِ لكتابةِ مذكراتهِ .
وفي تلكَ الفترةِ ، افتتحَ مُهنّد معرضهِ الفَنّي ،وقد لقىَ صداً كبيراً مِنْ قِبلِ الصَحافةِ والإعلامِ والمُهتمين بالفنِ والرسمِ .
مشاعرُ الأهلُ بقمةِ الفخرِ بِمَا أنجزَ ولدهم ، أمَّا مُهند فقد اكتملتْ فرحتهِ بارتباطهِ بأنجيلا التي أحَبّها .
اليوم ..
وبَعدَ مرورِ عدّةِ سنواتٍ ، الوقتُ فصلُ شتاءٍ و يبدو أنّه الأكثر برودة على العائلة .
الأمُّ تَجلسُ بالقربِ منْ موقدِ الحَطبِ ، وتضعُ نظاراتها الطُبيّة ، وبينَ يديّها قطعةُ صوفٍ منَ العامِ الماضي لمْ تُكمل حياكتها بعد ، تُحاولُ أنْ تُنهيها الآن ..
وهي المرةُ الأولى التي تتقاعس بها عَنْ شغلِ الصوفِ الذي تُحبّهُ .
– أمّي ، هَلْ أخذتِ دَواءَ الضغطِ والسُّكَر ( سَألها سَامي ) .
– نَعم يا بُني ( تُجيبهُ بصوتٍ خافتٍ )
– لقدْ صنعتُ لكِ كُوباً مِنَ الشّاي بالنعناعِ الذي تُحبينهُ ، ( يضعه أمَامها على الطاولة ) .
يَعلو ضَجيجُ الأولاد في أرجاءِ البيتِ ، مَعَ صنعِ بعض الفَوضى بالألعابِ المُبعثرةٍ هُنا ، وهُناك ..
إنَّها أصواتُ حفيداها ، ابن مُهنّد ، كنانُ الشقي الجميل ، وَ رشَا الحلوة بنتُ سَامي .
كانا يَملآن البيتَ شقاوةً ومَرحاً.
أمّا مُهنَّد ..
– يجلسُ الآن في القسمِ الثاني مِنْ صالون البيتِ ، يُمسكُ بين يديهِ كِتاباً ، يَقرأهُ بشغفٍ وينسجمُ بهِ لدرجةِ ينسى كل شيءٍ حولهُ .
يتمعنُ بكلِّ ورقةٍ مِنَ الكتابِ برويةٍ ، يتحسسهَا بينَ أناملهِ قبلَ أنْ يقرأهَا ، ويتذكرُ كلامَ والده حينَ أخبرهُ هوَ وسَامي أنَّ الكتابَ الورقيّ لهُ وقعٌ خاصٌ على الروحِ ، ينتابكَ شعورٌ ساحرٌ يشدكَ منذُ قراءةِ السطورِ الأولى ، إلى أنْ تَسرقكَ الأحداث وتغوصُ بعمقِ التفاصيلِ ، وتُحلّلُ مَابينَ السطورِ ، لتشعرَ أنكَ جزءً من هذا العالم الورقيّ الغامض الرائع.
توقفَ مُهنّد لحظة عنْ القراءةِ ، حينَ ثَقلَ الدّمعُ في عينيهِ ، وهوَ يحضنُ هذا الكتاب الغَالي جداً على قلبهِ ، والثمين جداً بقيمتهِ الفكريةِ والمعنويةِ ، إنَّها مُذكرات والدهُ السّيد أنور .
يكادُ مُهنَّد الآن يتحسسَ وجهَ والده المُشرق يبتسمُ لهُ ، ويشعرُ لوَهلةٍ بأنَّ الورقَ يَنثرَ رائحةَ عطرهِ في أرجاءِ البيتِ ، كأنَ ذكرياته نهضت من عالم الورق ، لتبعث الأمان والدِّفء الذي افتقدوه واشتاقوه جميعاً في البيت برحيل الوالد منذُ عامٍ .
#سفيربرس ـ بقلم : غـانـا أســـــعـد