إعلان
إعلان

قلق الامتحان وسبل الوقاية. بقلم : أ.د. عبدالله المجيدل

#سفيربرس

إعلان

يشكل الامتحان أحد اهم الأزمات التي تواجه الطلبة والأسر في آن معاً في مسيرة الطلبة الدراسية، ولا سيما امتحان نهاية مرحلة التعليم الثانوي، إذ يرتبط بنتيجتها مستقبل الطالب، ومهنته، ومسار حياته برمتها، وغالباً ما تسهم متطلبات الوالدين غير المستندة إلى معرفة حقيقية لقدرات المتعلم، ومواهبه، وميوله، واتجاهاته، والمرتبطة بالنظرة الاجتماعية القاصرة والمشوهة في تقييم مجالات المعرفة اعتماداً على الدخل المادي المتوقع أن يحققه كل تخصص من التخصصات، ما يدفع بالأسر للاتجاه إلى الدروس الخصوصية، او المدارس الخاصة، التي تحملهم الأعباء المالية،- والتي تشكل خرقاً لمبدأ تكافؤ الفرص التعليمية وديمقراطية التعليم التي يكفلها دستور البلاد- كل هذا يؤدي إلى زيادة الضغوط النفسية على الطالب، وظهور بعض مؤشرات القلق والاضطراب، وأمام غياب التوجيه الأكاديمي، والإرشاد الاجتماعي، والتخطيط التربوي الناجح، والسياسات التعليمية الهادفة، تفقد البلاد الكفاءات العلمية لمجالات حيوية من مثل: الفيزياء والكيمياء وعلوم الفضاء والعلوم التطبيقية الاخرى، وذهاب النوابغ والمتفوقين، الذين يشكلون مشاريع علماء في هذه العلوم التي تحتاجها البلاد، إلى كليات الطب والصيدلة، التي يمكن تسميتها بحق مقبرة العلماء، في الوقت الذي تزخر فيه شوارع مدننا بعيادات الأطباء، والصيدليات التي باتت تنافس حوانيت البقالة لكثرتها.
ولعل التباين بين قدرات الطلبة، وطموحات الأسر، يشكل عامل ضغط يضاف إلى العوامل المسببة لقلق الامتحان، الذي ينتمي إلى عداد الإجهادات النفسية التي تؤدي في أحوال كثيرة إلى ما يسمى بعُصاب الامتحان، الذي يوليه الطب النفسي أهمية خاصة، إذ إنه من أكثر العوامل تأثيراُ في إثارة التوتر النفسي لدى الطلبة، في ظروف الامتحان ويمثل وضعاُ استثنائياً لمختلف جوانب شخصياتهم، ومن العوامل المرتبطة بالامتحان والتي تسبب اشتداد التوتر الانفعالي، المتطلبات القاسية التي تُفرض في تحديد زمن الإجابة، والإلحاح على الذاكرة في استحضار المعلومات في هذه الظروف، ما يجعل التحضير والتقدم للامتحان عمليتان تقترنان بتوتر كبير للغاية لأجسام الطلبة، فالنشاط العقلي الزائد، والتحميل الاستاتي الكبير الناتج عن استمرارية وضع معين لمدة طويلة، وتقييد الفعالية الحركية، واختلال نظام الراحة والنوم، والهواجس الانفعالية التي تثيرها طموحات الأهل المبالغ فيها، كل هذا يؤدي إلى الإفراط في توتر الجهاز العصبي، ويؤثر تأثيراً سالباً في الوضع العام للجسم الذي مازال في طور النمو، إذ تشير بيانات “أنتروبوفا” إلى اختلال نظام النوم عند الطلبة في أثناء الامتحان، فقد بينت المخططات البيانية المتعلقة بحقب النوم ليلاً أنه في أثناء الاستعداد للامتحان تتغير صفات النوم، فإذا شكلت نسبة الحقب الهادئة التي تصف مدى عمق النوم نسبة (51%- 70% ) على مدى العام الدراسي، فإن هذه النسبة تنخفض إلى (31%-50%) في فترة الامتحانات، ما يؤدي إلى النوم السطحي، كما لُوحظ انخفاض في وزن الجسم لدى 48% من الذكور، و60% من الإناث‘ وازداد الضغط الشرياني في اليوم الأول من الامتحان، كما لُوحظ في بعض الحالات تطور للشعرانية وظهور حب الشباب لدى الفتيات المراهقات، (ولاسيما في البلدان الواقعة على حوض البحر الأبيض المتوسط) في ظروف الإجهاد الامتحاني الذي ربما تثيره الانتروجينات (هرمونات ذكرية) من نشاط الغدد الكظرية (فوق الكلوية) وفق تقرير لجنة خبراء منظمة الصحة العالمية، كما يتصف الإجهاد الامتحاني بمختلف اضطرابات الوظائف النمائية من مثل: تغير في مستويات الضغط الشرياني، واتساع الاوعية الدموية، وتغير في سرعة التنفس وتواتره، والتعرق وتغير في قطر الحدقة، وإفراز اللعاب، واضطرابات الجهاز الهضمي والفعالية الكهربية للدماغ، وتركيب الدم واللعاب والهرمونات، والأيض الأساسي.
ومع تطور تقانات علمي الفيزيولوجيا والكيمياء الحيوية يتطور توثيق بيانات ردود الفعل الإعاشية بدرجة عالية من الدقة، وفي غير مرة لُوحظ لدى الطلبة مختلف ردود الفعل على أوضاع الإجهاد الامتحاني المتمثلة بالتجليات الجسدية للاكتئاب وحالة الاضطراب، والصداع وآلام المعدة والأمعاء، وعلى الرغم من كل مواقفنا السلبية إزاء الامتحانات، ينبغي القول بأنها تستطيع أن تقوم بدور تدريبي واضح على التعامل مع الصعاب وفي ظروف الأزمات، وربما كانت هذه الحجة الوحيدة من قبل علم الصحة النفسية لصالح إبقائها، وعلى مدى تاريخ علم التربية كان التربويون والمتخصصون بالصحة النفسية ينتقدون النظام الامتحاني المدرسي، ويتهمونه، بكل حق، بانه يدعو للحفظ الآلي للدروس، وأن أشياء كثيرة في هذا النظام تتوقف على المصادفة، ومدى عمق التجربة الاجتماعية للطلبة، وأنه نظام لا يضمن احتفاظ الطلبة بالمعرفة، وكأن التقدم للامتحان يعطي الحق للطلبة في نسيان ما تعلموه، ونادراً ما كانت هذه الحجج تثير اهتمام القائمين على التعليم المدرسي، كما أن الإلغاء التام للامتحانات المدرسية في بعض البلدان، دون البحث عن بدائل منهجية، أدى إلى نقص كبير في المنظومة المعرفية لدى الطلبة، وتدني مستوى فاعلية التعليم، ويقوم علماء التربية والتعليم في مختلف بلدان العالم بدراسة جادة لمسألة الامتحانات، التي باتت تشكل تحدياً حقيقياً لعلم التربية، في البحث عن أساليب تربوية لقياس لمستوى التحصيل، وجعل العملية الامتحانية جزءاً من العملية التربوية خالية من الاثار السالبة في صحة الطلبة الجسدية والنفسية، وعلم التربية لا يعدم الوسيلة في إيجاد الطرائق التي تقيس مستوى تحصيلهم، ولا تؤذي صحتهم النفسية، ولعل كثير من الباحثين في علم التربية يرون ضرورة احتساب التقييم السنوي المستمر لأداء الطالب في جميع المراحل، بوصفها أحد المعايير التي ينبغي اعتمادها في تحديد المسارات اللاحقة للتعليم، واعتماد اختبارات القبول الخاصة بكل مجال تعليمي، وكذلك اعتماد المعطيات التي يقدمها علم النفس، ما يتيح الاهتمام بالسمات الشخصية للطلبة في أثناء إجراء الامتحانات، وهنا لابد ان تعمم كل المستجدات التعليمية وتدابير الصحة النفسية القادرة على تخفيض الدور السلبي للإجهاد الامتحاني، ومن الممكن أن يكون أنموذج روائز تقويم المعارف، وقياسها أحد التدابير الوقائية الفعالة في الحفاظ على صحة المتعلمين النفسية، من خلال قدرتها على تخفيض التوتر الانفعالي للطلبة في أثناء الامتحان، ومن الإجراءات التي ينبغي اتباعها، استناداً إلى نتائج البحوث والدراسات، تقليص فترة انتظار الامتحان بألا تزيد على (10) دقائق، ويمكن تجنب عوامل القلق الامتحاني من خلال تعزيز ثقة الطلبة بأنفسهم، وبمعارفهم وإمكانياتهم، وهنا لا بد من استخدام الطرق السليمة لترسيخ هذه السمات لديهم. ومن الأمور التي تساعد على تخفيف اضطرابات الطلبة المرتبطة بالامتحان إعدادهم مسبقاً، وتهيئتهم للإجهاد الامتحاني، وتدريبهم على الضبط الذاتي من خلال تدريبهم على الضبط الإرادي للتنفس، والارتخاء العضلي، وزيادة النشاط البدني، وممارسة الرياضة بعد الامتحان مباشرة، وعزف مؤلفات موسيقية تتميز بالوتيرة المعتدلة، والنغمات الراقصة، والموسيقا الشعبية الرخيمة، إذ بينت دراسة بعض دلائل الحالة الوظيفية لأجسام الطلبة، بان الاستماع للموسيقى في يوم الامتحان يخفض التوتر الانفعالي العصبي، وتدني مستوى مظاهر بوادر الإرهاق.
وفي أثناء الاستعداد للامتحان لا ينبغي أن يبتعد نظام يوم الطلبة عن الأيام الاعتيادية المتبعة على مدى العام الدراسي، وبفضل أن تُجرى امتحانات المواد المسببة للتوتر، في فترة الزيادة الطبيعية لقدرة جسم الإنسان على العمل بنشاط زائد وهي الفترة الممتدة من الساعة 9 وحتى الواحدة ظهراً، كما يُوصى بتناول كميات متوازنة ومتنوعة من الطعام الذي يحتوي على نسبة كبيرة من الزلال، والفيتامينات ولا سيما المجموعة(B) وكذلك الأطعمة التي تحتوي على الكالسيوم، إذ لُوحظ في ظروف الامتحان يتطور في الجسم ميزان سلبي للكالسيوم، كما ينصح بأن تكون ممارسة الرياضة ذات التوتر المتوسط كي لا تؤدي إلى التسبب بالإرهاق البدني.
ولعل دراسة عوامل نجاح واحد من أقوى أنظمة التعليم في العالم، وهو التعليم في فنلندا تكون مفيدة في هذا المجال، إذ تشكل “المساواة” و “الوطنية” و “الإيمان بالإنسان وروح الإبداع” كلمات السر وراء النجاح والتميز لنظام التعليم الفنلندي، فالمساواة بين الطلاب هي مبدأ أساسياً يتحقق من خلال تعميم التعليم الحكومي، فلا وجود للمدارس الخاصة، ويحصل الطالب الفقير على جودة التعليم نفسها التي يحصل عليها الطالب الغنى، كما أنه لا توجد تصنيفات وترتيبات للمدارس، وذلك انطلاقا من الإيمان بفكرة أن التعاون بين المدارس لتحقيق هدف قومي واحد أفضل من المنافسة بينهما، وكذلك جعل مهنة «المعلم» من أكثر المهن المرموقة في فنلندا، فالمدرس يعامل تماماً مثل الأستاذ الجامعي، ولا يلتحق بهذه الوظيفة إلا من حصل على شهادة الماجستير على الأقل، فضلا عن شروط أخرى تجعل من اختيار المدرسين عملية دقيقة للغاية، ومن ثم سياسية صنع القرار لا تضعها جهة محددة، بل يشارك فيها جميع أطراف العملية التعليمية، وفى فنلندا أطرف نظام للامتحانات والواجبات المدرسية في العالم، فببساطة، لا يمتحن الطالب الفنلندي امتحانا سنويا «موحداً» إلا مرة واحدة فقط تكون في نهاية المرحلة الثانوية، وتمنح الثقة الكاملة للمدرسين في وضع الاختبارات بدلاً من الامتحانات الموحدة وفقا لرؤيتهم الخاصة بدون التدخل من الإدارات التعليمية، كما أنه نادراً ما يحصل الطالب على واجبات منزلية، لأن المدرسة تكون بالفعل قد غطت كل ما يحتاج إليه الطالب من الناحية التعليمية، أما المنزل فهو مكان تلقى الأطفال دروساً في الحياة، وليس في العلم، وفقا للرؤية الفنلندية للتربية والتعليم. إضافة إلى قدسية وقت الراحة واللعب والترفيه بالنسبة للطلبة، فالقانون يلزم المدرسين بمنح الطلبة وقتا للراحة مدته 15 دقيقة لكل 45 دقيقة من الشرح، انطلاقا من مبدأ أن الطفل لابد أن يستمتع بطفولته لأطول فترة ممكنة، كما أن التعليم الجامعي مجانى في فنلندا، الأمر الذى يريح طلبة الثانوي من عبء التفكير في مستقبله بعد المدرسة، إذ إن المال لا يشكل عائقا أبدا أمام التحاقه بالكلية التي يرغب فيها، كما أن الحصول على كافة الدرجات العلمية العليا مثل الدكتوراه والماجستير تكفله الدولة بالمجان.

#سفيربرس _ بقلم:  أ.د. عبدالله المجيدل
كلية التربية – جامعة دمشق

إعلان
إعلان

رئيس التحرير

محمود أحمد الجدوع: رئيس تحرير صحيفة سفير برس. صحيفة سورية إلكترونية، يديرها ويحررها فريق متطوع يضم نخبة من المثقفين العاملين في مجال الإعلام على مختلف أطيافه, وعلى امتداد مساحة الوطن العربي والعالم.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *