إعلان
إعلان

العقل والعاطفّة . بقلم : د. محمود شُوبّر

خاص سفيربرس

إعلان

في الطروحات التنظيرية والفلسفيه لعلم الجمال نرى جلياً تاثير هاتين المفردتين على النتاج الجمالي للفن ، وهذا يختلف عليه ويتفق عليه كل حسب منهاجه واعتقاده فمنذ ظهور الفلسفة كعلم قائم ورواده الاغريق الاوائل وعلى يدي الثلاثة الكبار (سقراط-افلاطون-ارسطو) وطبعا قبلهم هناك السفسطائين والرواقيين .والفيثاغوريين.
ولكن هؤلاء كانت لهم الاراء الواضحة المعالم بشأن الجمال وماهيته وتقيمه . فالاول كان قد احاله الى النفعية والثاني جعله مثالياً والثالث قال بموضوعيته.دح
وهكذا وصولاً الى الفلاسفة المعاصرين الذين لم يخرجوا بعيدا عن جادة الطروحات للمعلمين الاوائل كثيراً ولكن بسبب تطور الحياة وتعقيد حياة الانسان صارت هناك اضافات على اصل الافكار بمايتلائم مع روح العصر واكتشافاته العلمية. فصارت طروحات الحدس والجدل والماورائيات والجنس الخ…من الاصطلاحات التي تلائم طروحات كل مفكر محاولاً ترسيخها والدفاع عنها،وكانت كل هذه الاراء والنظريات الفلسفية تجد صداها الواسع في مجال الثقافة على صعيد الفن والادب،وبذلك نرى كيف تطورت الفنون واصبحت لها مدارس وحقب زمنية تكاد تكون معادلة لتطور طريقة تفكير الانسان وحياته على مختلف الاصعدة.

ولكنني ليس بمحل الاستعراض التاريخي للفكر والفن ودور التنظير في قلب كيان اللوحة واحالتها باتجاه اخر مغاير ومختلف عن ما سبقه من منجز بل احاول الاستفادة من هذه المقدمه البسيطة للخوض في كنه اللوحة المعاصرة التي نطمح او نعمل للتعرف على معالمها العامة،ولكنها بطبيعة الحال سوف تظل
وتبقى لغزاً محيراً في غالب الاحيان لكل المشتغلين في عالم الرسم، ولابد من الاشارة الى موقفي حول موضوعة الرسم والفن ،حيث ارى اختلافا كبيرا بين هذين المسمين حيث ان الرسم هو التصوير واعادة تأليف مشاهد او صور مقتطعة من الحياة او المشاهدات اليومية ،اي بمعنى آخر هو عملية محاكاة للكاميرا الفوتغرافية تحتاج الى خبرة وتقنيات توصل الى هذه الغاية التي دأب الكثير من الرسامين ان يقللوا الفرق بين ريشتهم وعدسة الكاميرا الى حد الاستغراق في حث العقل على حفظ آليات اشتغال تصل الى حد الفهم الميكانيكي بينه وبين عين ويد الرسام وبالتأكيد يكون هناك اثر بسيط للعاطفة في او اثناء انتقال الصوره او المشهد المقتطع كما اشرنا انفاً الى السطح التصويري فتكون هناك معرفة قبلية ومعرفة بعدية تتكون بعد انجاز اللوحة بصيغتها النهائية، وهذا يكون مشابه للتوقيع الذي يذيل به الرسام لوحته في اسفلها غالباً.

اما الفن فهو عملية مختلفة جملة وتفصيلا عن ماذكر اذ ان الفنان هو مصدر الابداع بمعنى هو الخالق للصورة او المشهد الذي يريد اقتطاعه او تصويره على خامته. وهذا يجعل الموضوع اكثر صعوبة وتعقيداً،اذ كيف يتسنى له ان يخلق من اللاشيء شيء ويقنع المتلقي انه حقيقة ليتفاعل معها ويحسها من خلال حواسه التي تتذوق اللوحة مضافاً لها الوعي الثقافي والمعرفي الذي يؤهله ان يكون بمستوى مايطرح الفنان من رؤى وارهاصات قد تكون تملك في ذاتها الكثير من الجده والمغايرة لما اعتادت العين على رؤيته بمحيطها المرئي. 
اذن نحن امام قضية تحتاج الى العاطفة اكثر من احتياجها الى العقل وتحتاج الى المتخيل اكثر من اعتمادها الى المرئي وتحتاج الى مغايرة العقل في الكثير من الاحكام والاسس التي اعتاد ان يكون بمسارها المنطقي.وهذه المخالفة او المغايرة تؤدي الى عملية قفز رشيقة تختصر الزمان والمكان لايجاد لحظات بكر لم يتم تدشينها وتوظيفها بل اللعب عليها احيانا لتكون قيد الصياغة التي يرتأيها الفنان.

وهذا الفرق بين المرئي والمتخيل وبين الذاتي والموضوعي هو الذي يحدد الفاصل بين الرسام وبين الفنان اي بين التقني (الحرفي) وبين المبتكر (الخالق) وتبارك الله احسن الخالقين اذا اقتنعنا بهذا الرأي نرى مصاديق فاعله له على الحركة التشكيلية في العراق من بواكير الانشاء الى وقتنا المعاصر هذا.
فهناك الكثير من الاسماء التي كانت تمتلك النجومية والشهرة وكانت بمثابة القمة للهرم لايستطيع احد النيل منها او مقاربتها او التقرب اليها باعتبارها رموزا كبيرة في (عالم الفن) او هكذا يعتقد، ولكن الان اصبحت هذه الاسماء نفسها غير قادرة على التواصل او الحضور الفاعل بسبب ارتماءها الذليل في عالم الحرفة مبتعدة عن البحث والتواصل مع حركة الحياة ودورتها الكونية واتكاءها على ماضٍ كانت فيه المفاهيم التي تشكل الذائقة مختلفة تماماً .

والامثلة كثيرة من تلك الاسماء الكبيرة ولعلني ارى نفسي امتلك الشجاعة في ذكرها ولكن لاتتسع لها فكرتي في الكتابة عن

الفنان العراقي صلاح جيّاد ـ مقيم في باريس

هذا الموضوع المهم والحساس بنفس الوقت، ولكن لابأس من ذكر نموذجاً لغرض ايصال الصورة للقاريء الكريم. ولعلي ارى من المناسب ان اتناول اسم (صلاح جياد) هذا الاسم الكبير جداً في عالم الرسم والتي حيكت القصص من محبيه ومريديه عن ريشته لدرجة الاعتقاد بأنه (نبي)الرسم العراقي الحديث. وهو كذلك بحيث كان يرسم بمهارة يتغلب بها احيانا على استاذه ومعلمه الراحل (فائق حسن)، وماشاهدنا على ذلك (البورتريه) الذي رسمه لرئيس الجمهورية في اوائل السبعينات في (باب الشرقي)/بغداد الا دليلاً واضحا على ذلك فقد كان البعض من محبي هذا النوع من الرسم يسافرون الى بغداد مخصوصاً لمشاهدة هذه اللوحة والتقاط صور تذكارية جنبها، وهذا ساهم بصنع نجومية اخرى تضاف الى نجوميته، وغادر العراق الى باريس وهو اسم كبير بالعراق واستقر هناك ولكن لم تستطيع باريس او اوربا الى اخراجه من عقله الذي ظل مهيمنا عليه بحسب الاشتراطات التي تمليها ذاكرته التي توقفت في محل الرسم الواقعي بحيث ان اضواء اللوفر لم تكن مغرية له بقدر اضواء ساحة مونمارت التي يكثر بها رسامون الصور الشخصية!!

وانا اسيق هذا المثال فقط للتوضيح وليس للاساءة ابداً، فيبقى صلاح جياد اسماً حفر بذاكرة الجميع وماتناولي له الان الا لاعترافي الصادق بفاعليته وحضوره المهم في سبعينات القرن المنصرم.

وهذا الفهم الذي تأسس منذ الجيل الريادي (جيل الكبار) الذي سنحت الفرصة لاغلبهم بالدراسه في معاهد وكليات اوربا التي كانت قبلة الفن انذاك، اقول ان هذا الجيل والذي تلاه كان جزءاً من تكوين هذه الفكرة التي مفادها ان الرسام الجيد هو الفنان الجيد ،فلو تأملنا قليلاً في اعمال الاستاذ (عبد القادر الرسام) لصار عندنا يقين واضح بهذا الاتجاه، فنلاحظ انه كان يحاول محاكاة آلة التصوير حين رسمه للطبيعة العراقية بشكل كبير جدا حتى من حيث التكنيك في طريقة التلوين، واعتقد ان المجتمع ساعد على ترسيخ هذا الاعتقاد اذ ان الذائقة كانت غير مستعدة الى الاقتناع برسومات لا تشبه الواقع او تحاكيه لدرجة المطابقة، وهذا هو الذي جعل الاستاذ (جواد سليم) ان يقول قولته الشهيرة(يريدونني ان ارسم تفاحة واكتب عليها هذه تفاحة)!.

حيث انه فهم مبكرا ان هناك فرقاً واضحاً وجلياً بين الرسم وبين فن الرسم ، وجاء نتاج الفني مصداقاً لما يؤمن به ، فحينما نشاهد (الشجرة القتيلة) نرى ان اهتم بالتأليف الانشائي اكثر من التأليف الواقعي حيث نحس ان هناك موسيقى تبث من خلال من خلال نسقية الشخوص مع جسد الشجرة واوراقها التي رسمت بطريقة غريبة عن الرسم العراقي. وهذه الموسيقى ممكن احالتها لرشاقة الخطوط وحدتها تارةً وهدوئها تارة اخرى. وهكذا في (كيد النساء) او (ياحافظ) او باقي اعماله التي بقت خالدة الى اللحظة والتي تعتبر من نفائس الحركة التشكيلية العراقية والعربية اذا ما قلنا انها من نفائس النتاج الفني العالمي.
واعتقد بشكل صريح ان الذي جعل اعمال الاستاذ(جواد سليم) بهذه الدرجة من الاهمية هي (كمية) العاطفة التي صبت على السطح التصويري من روح الفنان، حيث انه كان يرسم بمشاعره واحاسيسه لا بعينه واصابعه . كان يتعامل مع (نوتة موسيقية) وليس مع الوان وريشة، حيث اعتقد انه كان يريد محاكاة اوتار العود ومقاماته وثقوب الناي واشجانه بصياغة توليفة بارعة تجعلنا نذعن (لموسيقاه) ولا علينا او ليس بمقدورنا الا ان نقول (الله) يالهذا الجمال!
في مذكراتها التي كتبتها (لورنا سليم) زوجته والتي تحدثت عن مرافقته بالرسم في شارع الرشيد في الخمسينات من القرن المنصرم، حيث كانت هي وجواد يرسمون جامع الحير خانة الشهير في هذا الشارع العتيق في بغدادوالذي كان يعج بالسياح الاجانب كان حامل اللوحة التي ترسم عليه قريب من حامل اللوحة الذي يرسم عليه جواد، وكان المشهد واحد من حيث الزاوايا ووجهة النظر والمنظور. ولكن النتائج كانت تأتي مختلفة حيث تقول لورنا ((انه كان يرسم جامع غير هذا الذي امامنا))، بمعنى انه غير مقيد بما موجود من حيث الشكل ولكنه ملتزم بالمضمون حيث انه كان يوافق بين الضرورة الداخلية للمشهد على سطح اللوحة وبين تلك الضرورة التي تنبعث من ذات الفنان ليجعل هناك بعداً روحياً اكثر واعلى شأناً من البعد العقلي الذي تشتغل عليه عين الفنان واصابعه الممسكة بالريشة!!

سفيربرس ـ بقلم : د. محمود شُوبّر

فنان تشكيلي من العراق

إعلان
إعلان

رئيس التحرير

محمود أحمد الجدوع: رئيس تحرير صحيفة سفير برس. صحيفة سورية إلكترونية، يديرها ويحررها فريق متطوع يضم نخبة من المثقفين العاملين في مجال الإعلام على مختلف أطيافه, وعلى امتداد مساحة الوطن العربي والعالم.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *