إعلان
إعلان

أحلام أكراد سوريا بين سكّين  أمريكا ونيران تركيا ..بقلم : الإعلاميّة د. عبير الحــيّالي

سفيربرس لندن

إعلان

شهد التاريخ قديماً وحديثاً العديد من الخيانات السياسية التي قلبت موازين العالم، ويبدو أن التاريخ يعيد نفسه بمايخص سياسة الولايات المتحدة الأمريكية اتجاه العالم العربي، ولطالما اتخذت واشنطن سياسة مزدوجة لإشعال التوترات أو لاستغلال التوترات الموجودة أصلاً. ومن منا لايذكر “حرب الخليج الثانية” وأسبابها ونتائجها التي كانت كارثية على المنطقة والعالم، وازدواجية الموقف الأمريكي الذي كان أحد أسباب تمزيق العالم العربي، حيث شجعت ضمنياً السفيرة الأمريكية لدى العراق يومئذ أبريل غلاسبي صدام حسين ودفعته بشكل غير مباشر لتنفيذ تهديداته بغزو الكويت. كان ذلك في يوم ٢٥ حزيران ١٩٩٠ حين قالت له إن الحكومة الأمريكية “ليس لها رأي بشأن الخلافات العربية/العربية “. لكن ماحصل لاحقاً أثبت أن الحكومة الأمريكية لاتتدخل في الشؤون العربية فقط، وإنما تعمل على إيجاد السبل للقضاء على المنطقة واحتلالها كما حدث بالعراق أو إيجاد قواعد لها في الدول المحيطة، والآن تعمل على إيجاد دويلات من العدم تعمل على رعاية مصالحها، وهذا ما اختبرناه أثناء الدعم الأمريكي لأكراد سوريا.

استُثمر الأكراد في الفوضى التي عمت العالم العربي والدول المحيطة في السنوات الأخيرة، معتقدين أن الفرصة قد حانت لتحقيق آمالهم في خلق دولة كردية مستقلة مجاورة للدول العربية. ولم يتردد بعض الأكاديميين والمثقفين الأكراد بالتصريح في أكثر من مناسبة أن المأساة التي حلت بالمنطقة هي انتقام إلهي لقضيتهم وماهي إلا عدل سماوي لنصرتهم!

وهكذا وجدوا ضالتهم لدى واشنطن، القوة العسكرية التي ستساعدهم على التصدي لخصومهم وتحقيق آمالهم، ووجدوا فيها الحليف الذي سيؤمن لهم دوراً أكبر في المستقبل السوري حتى لو بني هذا الدور على حساب مستقبل ووحدة وأمان الأراضي السورية. وفي الوقت ذاته، كانت الولايات المتحدة تبحث عن موطيء قدم لها داخل الأراضي السورية، وكذلك وجدت ضالتها لدى أكراد سوريا، اللذين حصلوا ظاهرياً على لقب “الحليف” الذي يعمل لمواجهة “داعش” وفي حقيقة الأمر أنها كانت تسعى للضغط على الحكومة السورية وإيجاد سلاح داخلي لمحاربتها به، بالإضافة إلى مواجهة التمدد الروسي- الإيراني في المنطقة.

عندما نشب النزاع في سوريا عام ٢٠١١، استغل الأكراد الفوضى وبنوا مايشبه الإدارة الذاتية في شمال البلاد وشمال شرقها، وتمكنوا من تعزيز مواقعهم بعد انسحاب الجيش السوري منها في عام ٢٠١٢. ولكن في عام ٢٠١٣، طغى على المشهد تغييرات سريعة وممنهجة تحت رعاية حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي والذي تعتبر “وحدات حماية الشعب” جناحه العسكري.

كان من ضمن أهم هذه التغييرات، إعلان الأكراد إقامة إدارة ذاتية في مناطق سيطرتهم عام ٢٠١٣، وفي آذار ٢٠١٦، أعلنوا النظام الفيديرالي وقسموا مناطق سيطرتهم إلى ثلاثة أقاليم، وفي نفس العام أقر الأكراد دستورهم لهذا النظام الفيديرالي الذي أطلقوا عليه اسم “العقد الاجتماعي”. وفي أيلول من عام ٢٠١٧ تم انتخاب مجالس للبلدية.

تمدّ الولايات المتحدة بدورها المسلحين الأكراد في الشمال السوري يومياً بأطنان من السلاح والعتاد، كما يقوم ضباط فرنسيون متخصصون بتدريب المسلحين الأكراد على استخدام السلاح وفنون القتال، بالإضافة إلى تشكيل طاقم وظيفي وإداري كردي، وهذا يمكن الأكراد من النجاح في إدارة هذه المناطق بطريقة مدنية وعسكرية. وهكذا تم تنظيم الصفوف المقاتلة تحت مسمى “قوات سوريا الديمقراطية” تحت رعاية أمريكا أولاً والتحالف الدولي ثانياً. وفعلاً تمكن الأكراد بدعم من التحالف الدولي طرد جيش الدولة الاسلامية من مناطق واسعة ربما أبرزها الرقة ومنبج. بالمقابل استطاعت الولايات المتحدة أن تسيطر بشكل غير مباشر على جزء من موارد سوريا الاستراتيجية كالموارد الزراعية والنفطية الغنية في هذه المنطقة، كما استطاعت أن توجد لنفسها مكاناً على الأرض السورية لمحاربة أي تمدد روسي وإيراني وذلك بسبب نزعة الأكراد إلى الانفصال عن الوطن الأم.

تركيا لم تقبل بهذا التطور الممنهج للأكراد الذي تعتبره تهديداً كبيراً لها ومن المؤكد أن أصحاب القرار في أنقرة استشعروا الخطر المستقبلي القادم إليها ممثلاً بخارطة جديدة للمنطقة تمّ رسمها على طاولات السياسة الأمريكية- الاسرائيلية. وبالمقابل من المؤكد أن الأتراك أنفسهم اكتشفوا أن تورطهم بالأزمة السورية كان خطأ كبيراً، ونتيجة لذلك اقتحمت الأراضي السورية وسيطرت على عفرين شمال حلب تحت عملية عسكرية أسمتها ب “غصن الزيتون”، وفيما بعد، صعدت تركيا من لهجتها ورفعت مستوى التهديد وأعلنت عن نيتها بشن عملية أخرى ضد الأكراد في منبج وصولاً إلى مناطق سيطرتهم المسماة ب “شرق الفرات” في شمال شرق البلاد. وترى أنقرة أن وجود المسلحين الأكراد، المعروفين بوحدات حماية الشعب، بمثابة تهديد وجودي.

تحوّل أكراد سوريا إلى نقطة نزاع بين الولايات المتحدة الأمريكية وتركيا، ونستطيع القول إن العلاقات بين الطرفين تعيش حالة صعود وهبوط حقيقي بناء على المد والجزر في قضية الأكراد. وتنطلق تعقيدات الوضع من أن واشنطن تدعم المقاتلين الأكراد في سوريا، وتحديداً وحدات حماية الشعب الجناح العسكري لقوات سوريا الديمقراطية، والتي تصفها أنقرة بدورها، ب “الارهابية”، نظراً للروابط القوية بينها وبين حزب العمال الكردستاني، وتعمل على القضاء عليهم داخل الأراضي السورية.

وفي الاتجاه الآخر، تصنفهم أمريكا على أنهم الصديق العسكري والحليف في الداخل السوري، والذراع الغربية لقتال تنظيم الدولة الاسلامية، ولم تتردد أمريكا بوصف الأكراد بأنهم عدواً استراتيجياً للتطرف و “الإرهاب” في المنطقة.

واستمر الحال على ماهو عليه إلى أن جاء قرار الرئيس الأمريكي في نهاية العام المنصرم بالإنسحاب من سوريا تاركاً وراءه صدىً كبيراً إعلامياً وسياسياً، ولكن الأهم من ذلك ترك وراءه مصير الأكراد معلقاً، وتخلى عنهم بعد أن استثمرهم إلى آخر رمق، وسقطت أوراقهم من بين أوراق صياغة التحالفات الاستراتيجية في المنطقة! وهنا بدأ الأكراد بمحاولة العودة إلى المنظومة السورية التي ينتمون إليها وطلبوا مساعدة الجيش السوري لمنع نيران تركيا عنهم، وفعلاً لبى الجيش السوري النداء إيماناً منه بأنه

لن يسمح لأي جهة كانت باقتطاع هذه الأرض السورية، بداية بالأتراك ونهاية بالأكراد وحلفائهم الأمريكيين.

إن قرار الانسحاب الأمريكي يعطينا عدّة إشارات مهمة بما يخص مستقبل الأكراد، كالاعتراف الضمني للولايات المتحدة بالانتصار السوري. وربما أن خطة واشنطن موجهة لحماية وحدات حماية الشعب الكردي عن طريق تشتيت الأتراك وتوجيههم إلى محاربة ماتبقى من الدولة الإسلامية بدل مقاتلة وحدات حماية الشعب الكردي، وخصوصاً بعد كلمات ترامب لأردوغان “سوريا لك وسوف ننسحب”. وباتجاه آخر ومختلف يوجد سيناريو آخر لهذا الانسحاب، وهو عدم رغبة الولايات المتحدة أن تخسر تركيا كحليف قوي وشريك في حلف الناتو إذا ماوقعت المواجهة وهكذا تكون قد رفعت عن نفسها الحرج بمقابل التضحية بالأكراد وهي ليست بالقضية المهمة لسياسي كترامب مسكون باضطرابات شخصية ونفسية متعددة. ومن المرجح أن تكون خطة أمريكية تستهدف العلاقات التركية مع إيران وروسيا لضرب الحلول التي ممكن أن يخرج بها لقاء استانا، وخصوصاً أن موقف روسيا وإيران واضح اتجاه أي انتهاك تركي للأراضي السورية، ومن المعروف جهود السياسة الأمريكية لعرقلة الحلول السياسية للأزمة السورية منذ بدايتها.

 

فياترى هل مازال الأكراد يمنّون أنفسهم بدولة كردية تفتح أبوابها من البوابة السورية برعاية الولايات المتحدة؟ وهل يا ترى يشعرون بآلام سكين الغدر الأمريكي والوعود الزائفة وسيعيدون النظر بتحالفاتهم ويتجهون إلى صياغة تحالفات تصب في مصلحتهم ومصلحة سوريا التي تعتبرهم مكوناً رئيسياً من مجتمعها؟

إذا مااختار الأكراد الابتعاد عن الوطن الأم سوريا والذهاب بعيداً مع الوعود الغربية، فغالباً ستتم المقايضة عليهم عبر مكالمة هاتفية بين واشنطن وأنقرة وهنا ستكون خسارتهم تاريخية وأبدية، وخصوصاً إذا ما تمعنّا التشرذم الكردي فنحن لا نستطيع اليوم أن نقول إن الأكراد لديهم مشروع واحد وهم متفقون في إدارته وجامع لجميع الأحزاب والمكونات الكردية. واستمرار الأكراد في طريقتهم ستفتح لعنة الوجود التركي لفترات أطول على الأراضي السورية واستمرار وجودهم في شمال شرق وشرق البلاد بحجة هذه الحرب. إنّ مستقبل الأكراد في سوريا يتوقف على طريقة تعاملهم مع الوقائع الجديدة وأن يعملوا على أن يكونو شركاء أصلاء في وطن واحد، تحت راية واحدة، قيادة واحدة وجيش واحد، وأن يستثمروا الوساطة الروسية للحصول على أفضل مستقبل للأكراد وبالتعاون مع الحكومة السورية. عليهم أن يأخذوا تاريخ الولايات المتحدة السياسي في التخلي والتراجع على محمل الجد، وأن يكون لهم في قوله تعالى (وتلك الأمثال نضربها للناس ومايعقلها إلا العالمون) قدوة حسنة.

سفيربرس ـ بقلم : د . عبـــير الحــــيّالي
باحثة في الإعلام الدولي لندن

إعلان
إعلان

رئيس التحرير

محمود أحمد الجدوع: رئيس تحرير صحيفة سفير برس. صحيفة سورية إلكترونية، يديرها ويحررها فريق متطوع يضم نخبة من المثقفين العاملين في مجال الإعلام على مختلف أطيافه, وعلى امتداد مساحة الوطن العربي والعالم.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *