إعلان
إعلان

معارك الجزيرة المنسية في مقاومة الاستعمار الفرنسي .. بقلم : أ. د. عبدالله المجيدل

#سفيربرس

إعلان

مع أن مقاومة أهالي الجزيرة السورية لم تحظ بالتوثيق، إلا أنها مازالت حاضرة في وجدان أبناء الجزيرة وضمائرهم، إذ تشغل حيزاً من التراث الشفاهي لأبنائها، يتناقله الأحفاد عن الأجداد، ولم يكن أبناء سورية في الجزيرة بمعزل عما يجري من مقاومة للمستعمر على امتداد أرض الوطن، وتحفل المرويات بعدد كبير من الحوادث الفردية التي واجه فيها أبناء سورية في الجزيرة قوات المستعمر، ولكننا سنتوقف في هذه المقالة عند معركتين مهمتين في تاريخ مقاومة المستعمر الفرنسي، هما معركة بياندور ومعركة السبع والأربعين.

معركة بياندور
بياندور قرية تقع على كتف تلة إلى الشرق من مدينة القامشلي بنحو 30 كم، وهي مأهولة منذ زمن بعيد، وبحسب دفاتر ضرائب الاستعمار العثماني لعام 1564 دفع سكانها الضرائب عن تلك السنة.
تحركت في الثالث من أيار لعام 1923 قوة فرنسية مؤلفة من 300 عنصر من مدينة الحسكة بقيادة الضابط “روبيرتو” واستقرت في بياندور، وشأنها شأن أي قوة محتلة، إذ بدأت بظلم الأهالي والتنكيل بهم، واعتراض النساء العائدات من بئر الماء، فتمكن بعض الأهالي من اغتيال القائم مقام المعين من قبل الضابط روبيرتو، وعند قدوم المحقق الفرنسي “جيرنكو” من الحسكة للتحقيق في الحادثة، قام بتعذيب الأهالي واستشهد بعضهم في أثناء عملية التحقيق. إثر ذلك كُلف الجنرال “روغان” بإخضاع القبائل المنتشرة فيما بين القامشلي غرباً، والحدود العراقية والتركية شرقاً، وما بين الحدود التركية شمالاً وسفوح جبل سنجار جنوباً، والعمل على تأديب القبائل والتنكيل بها. وقد سلك هو الآخر سلوكاً تعسفياً متغطرساً مشيناً في تعامله مع الأهالي، فتذمر أبناء القبائل العربية والكردية وحقدوا عليه وبدأوا يعدون العدة لمهاجمة الحامية، ومن الأسباب الرئيسة لتلك المعركة رفض السكان من عرب وكرد الانتداب الفرنسي على سورية إذ رأوا فيه احتلالاً واستعماراً بغيضاً، وفي السادس والعشرين من تموز 1923 تحركت قوة فرنسية من حامية بياندور بقيادة “روبيرتو” و “روغان” شرقاً باتجاه عين ديوار الواقعة بالقرب من نهر دجلة؛ لاستطلاع الحدود وترسيمها، وبقي في الحامية ما يقرب من تسعين عنصراً وعلى رأسهم الضابط “موريل”، استغل الثوار الموقف وهاجموا الحامية في ليلة 28 تموز 1923 إذ وصل رجال القبائل إلى المعسكر قبيل الغروب، فقتلوا من قاومهم، وأسروا من استسلم وقاموا بإحراق المعسكر. ثم انطلقوا ليلاً إلى نهر الجراح الذي يقع إلى الشرق من بياندور وتمترسوا بقصبه وجروفه؛ لمواجهة القسم المتبقي من جيش روكان، الذي علم من بعض جنده الفارين من المعركة بالهجوم على المعسكر، فكر عائداً لنجدة جنوده، وعندما اقترب من نهر الجراح شاهد بالمنظار ما حل بمعسكره، وكانت النيران مازالت مشتعلة فيه، وقام بعض المتقدمين من الثوار بمناوشته، فنصحه المترجم أن يستسلم حفاظاً على حياته وحياة من معه من الجنود؛ لأن الثوار مسلمون ومن عاداتهم ألا يقتلوا من يستسلم. فأبت عنجهيته الاستسلام وصاح بجنوده إنها الحرب وسنبيدهم (هذا ما رواه مُترجمه الذي فر من المعركة واستسلم) وبدأت رشاشاته (المطرلوز، كما يسمونها) تصلي الثوار بوابل من الرصاص الكثيف، ولكن الثوار كانوا متحصنين بجروف النهر، إلى أن خفّ وابل الرصاص قليلاً (تناخى) الثوار وانقضوا على العسكر الفرنسي واشتبكوا معهم إلى أن كُتب لهم النصر، وتمكنوا من قتل الجنرال روغان وعدداً من ضباطه وجنوده، وأسروا من استسلم منهم، وفر مساعده روبيرتو باتجاه جزيرة بوطان، بعد أن سقط عدد ليس بالقليل من الثوار شهداء في أرض المعركة. وهكذا امتزجت دماء السوريين عرباً وأكراداً في الدفاع عن وطنهم وشرفهم، وانتهت المعركة حوالي التاسعة مساء، وانسحب من تبقى من قوات الفرنسيين إلى الحسكة إلى غير رجعة، وكان عدد القتلى من الفرنسيين يربو على 60 قتيلاً، وبعد ثلاثة أيام قدمت إلى المنطقة حوامة فرنسية، وبعد مفاوضات مع الثوار لاستلام جثامين قتلاهم، نقلت الحوامة جثامين الجنود الفرنسيين دون المرتزقة الذين قام الأهالي بدفنهم، وكان معظمهم من أصول أفريقية بحسب شهود عيان استنتاجاً من لون بشرتهم. وأفاد بعض شهود العيان بأن شقيقة الجنرال روغان حضرت على متن الحوامة لمرافقة جثمانه.

أما معركة (السبع والأربعين) : فقد أشار الدكتور محمد الوادي نقلاً عن بعض الروايات: بأن قامت القوات الفرنسية المتمركزة في الحسكة، بإرسال سرية مما يسمى بحرس الحدود في جيش الانتداب الفرنسي إلى الجنوب؛ لتأديب القبائل في منطقة الشدادي وما حولها، وذلك بعد أن كثرت الهجمات على الدوريات الفرنسية في تلك المنطقة، وكان سلاح تلك السرية البنادق والرشاشات وبعض المدافع الرشاشة.

وكانت القوة الفرنسية عندما تقترب من مضارب بعض القبائل تصليها بوابل من الرصاص، فيستشهد بعضهم ويفر الباقون من أمام تلك القوة لعدم قدرتهم على مجابهتها. اجتمع وجهاء قبائل الجبور والعقيدات والبكارة، وقرروا التحالف والتصدي بما لديهم من إمكانات للقوة الفرنسية.

وكانت تلك القوات قد تمركزت على بعد ٤٧ كم جنوب الحسكة على طريق دير الزور. فزحف الثوار الذين يملكون البنادق من هذه القبائل ليلاً إلى معسكر القوات الفرنسية، وطوقوها من جميع الاتجاهات، وانهالوا برصاص بنادقهم عليها، ويقال إن قائد القوة كان يخابر القيادة طالباً النجدة قائلاً: أنه على بعد ٤٧ كم جنوب الحسكة (وسمي هذا الموقع فيما بعد باسم السبع والأربعين)، وفي الصباح استطاع الثوار من رجال القبائل محاصرة الفرنسيين تماماً، إذ تحصن بعضهم على بعد عدة كيلومترات شمال منطقة الحصار، ومعظمهم من قبيلة الجبور لصد أي نجدة تقدم لفك الحصار. ونجح الثوار في صد النجدة القادمة من الحسكة. واستمر الحصار لعدة أيام قتل فيها معظم أفراد السرية، ولم يُفَك الحصار إلا بعد وصول نجدة كبيرة قادمة من دير الزور. فلاحقت هذه النجدة القبائل التي اتجهت غربا في الصحراء باتجاه جبل عبد العزيز، ولمخاوف الفرنسيين من التوغل في تلك المناطق قاموا بنصب مدافع بعيدة المدى على بعد ٣٠ كم غربي الشدادي؛ لقصف القبائل التي تقترب من المكان.

وهذا الموقع سمي فيما بعد باسم (أم مدفع)، يذكر بعضهم أن معركة ال٤٧ حدثت بين عامي ١٩٣٠ و١٩٣٥ ولم أجد من يحدد التاريخ الدقيق لهذه المعركة.
وتجنبت ذكر أسماء المشاركين في هاتين المعركتين، فهناك روايات كثيرة، ولا أرغب بتجاوز أسماء بعض من شاركوا وأسماء الشهداء، إذ كانوا بالمئات ويصعب حصر أسماء جميع من شاركوا أو من استشهدوا، ومن جهة أخرى، فقد انتفض أهلنا ضد المستعمر لا طلباً لثناء، أو طمعاً في شكر أوتكريم، إنما قاموا بما هو واجب نحو الوطن، والعبرة الثانية من تلك المواقف هي في تكاتف جميع الأهالي في الدفاع عن تراب الوطن وشرفه، دون أن يخطر ببالهم أي من المصطلحات البغيضة الطارئة والتي يتشدق بها، للأسف، بعض المثقفين في وسائل الإعلام الرسمية وغير الرسمية، من مصطلحات من مثل: أقليات وأكثريات، ومكونات الشعب السوري، والطائفة الفلانية الكريمة، إذ تضاف كلمة الكريمة تكريماً، وهي في الحقيقة انتقاصاً، فالكرامة لا تُجزأ، والكرامة الحقيقية هي في الانتماء للكل الذي يتجسد بالقيم الوطنية، وبكل ذرة تراب لهذا الوطن من طبرية إلى دجلة، نحن شعب واحد ومكون واحد، ومصطلحا أقلية وأكثرية للأسف يحيلانا إلى مرحلة ما قبل الدولة، فليس على وجه الأرض أمة أكثر تنوعاً من المجتمع الأمريكي، ومع ذلك لم نسمع بمصطلح مكونات الشعب الأمريكي، بل نسمع الشعب الأمريكي والمجتمع الأمريكي، فقد كان أجددانا أكثر وعياً، فقد بايع أهلنا بالجزيرة قادة الثورة السورية سلطان باشا الأطرش والشيخ صالح العلي، دون أن يخطر ببالهم الأمراض التي نلحظ بعض تجلياتها اليوم في استخدام مصطلحات غاية في الخطورة، على الرغم من التنوير والتعليم السائد حالياً، ولم يكن آنذاك، ولعلني أجد أن هذا هو الدرس الذي ينبغي التعلم منه والاقتداء به، وأما تفاصيل المعارك ضد المستعمر فليست ذات أهمية؛ لأنها أقل الواجب الذي لا يتأخر أي مواطن في أي من بلدان العالم في تقديمه دفاعاً عن تراب وطنه؛ عندما تدنسه أقدام المستعمر.

#سفيربرس _ بقلم:  أ. د. عبدالله المجيدل
جامعة دمشق ـ كلية التربية

إعلان
إعلان

رئيس التحرير

محمود أحمد الجدوع: رئيس تحرير صحيفة سفير برس. صحيفة سورية إلكترونية، يديرها ويحررها فريق متطوع يضم نخبة من المثقفين العاملين في مجال الإعلام على مختلف أطيافه, وعلى امتداد مساحة الوطن العربي والعالم.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *