متــلازمة العـــش الفارغ ـ بقلم : د. غالـــية اسعيّد

أصبح البيت فارغاً، مكان متوازن بالهدوء، لا صراخ ولا ضجيج، لا عراك على مائدة الطعام، لا فوضى عارمة في أرجاء البيت، ولا ضحكات رنانة تخل التزاني هذا الرتم الهادئ …
تلك الكلمات ترافقها أيقونة من المشاعر المضطربة بين الحب والاشتياق، الفرح والحزن، ومشاعر أخرى قد لا أستطيع ترجمتها في كلمات هي ما ترافق أي أبوين قد خرج من عشهما أولادهما.
متلازمة شخصها علم النفس الحديث بمتلازمة العش الفارغ …
رافقني عزيزي القارئ بين هذه السطور لنتحدث عنها.
قد يشعر بها الآباء كنتيجة لمغادرة أبنائهم المنزل لأول مرة، باعتبار أن الانتقال الأبناء من منزل أسرهم أمر طبيعي وصحي الحدوث، فإن أعراض متلازمة العش الفارغ غالباً ما تمضي دون أن يتم إدراكها، وهذا يمكن أن يؤدي بدوره إلى اكتئاب الوالدين أو عدم وضوح الرؤية، لأن رحيل الأبناء من “العش ” يؤدي إلى تعديلات في حياة الآباء والأمهات.
وتُعتبر متلازمة العش الفارغ شائعة بشكل خاص في الأمهات ربات المنزل .
وعليه فإن متلازمة العش الفارغ هي الشعور بالحزن، والوحدة، والاكتئاب والفقدان، والحرمان، الذي يصيب الوالدين أو أحدهما نتيجة مغادرة أبنائهم البيت لأول مرة لأسباب متعلقة بالزواج أو الدراسة أو العمل.
حتى وإن بدا قادما من عالم العصافير فإن الاسم في الحقيقة يصف ظرفاً يمر به البشر، فمتلازمة العش الفارغ وصف لحالة يشعر بها الأهل عندما يغادر طفلهم الأخير المنزل، وتتميز بمشاعر الوحدة والحزن بعد أن غدا البيت فارغاً من ضجيج الأبناء ،فالأبوان هما عصفوران أمضيا حياتهما يصنعان العش ويمدانه بالقش، ثم ربيا الصغار طوال سنين، وعندما تحين لحظة مغادرتهم التي تكون عادة إما للدراسة أو العمل في مكان آخر، أو الزواج، عندها يشعر الأبوان بخليط من الأحاسيس، تشمل الوحدة مع غياب الصغير الرفيق، والاشتياق لوجوده معهما، والشعور بالذنب لأنهما لم يقضيا معه وقتاً أطول وقت كان موجوداً في البيت، بالإضافة للخوف عليه من مكروه قد يصيبه بعد أن كان الأبوان يتوليان حمايته والاعتناء به .
قد تؤدي هذه المشاعر إلى وقوع الأهل في براثن الاكتئاب، وقد تؤدي حتى إلى حدوث مشاكل عائلية بين الزوجين، فتغير الوضع الفجائي داخل المنزلي قد يؤدي لهزة عميقة على الصعيد الوجداني والنفسي.

إذاً ما حقيقة متلازمة العش الخالي وما سبب تعرض بعض الآباء لها؟
لا تمثل متلازمة العش الخالي تشخيصاً سريرياً، وبدلاً من ذلك، تُعد متلازمة العش الخالي ظاهرة يعاني فيها الآباء من الشعور بالحزن والفقدان عند مغادرة آخر ابن للمنزل.
بالرغم من أن الآباء قد يشجعون الأبناء على أن يصبحوا مستقلين، يمكن أن تكون تجربة المغادرة مؤلمة، يمكن أن يجد الآباء صعوبة في عدم وجود الأبناء الذين يحتاجون إلى رعايتهم فجأة في المنزل، يمكن أن يفقد الإنسان كونه جزء من حياة الأبناء اليومية علاوة على المرافقة المستمرة كما يمكن أن يقلق بشدة حول سلامتهم وما إذا كانوا قادرين على رعاية أنفسهم دون مساعدة.
قد يعاني الأبوين أو أحدهما صعوبة المرحلة الانتقالية إذا غادر الابن الأخير المنزل مبكراً أو بعد فترة توقع مغادرته.
ياترى ما هو تأثير متلازمة العش الفارغ؟
أشارت الأبحاث في الماضي إلى أن الأبوين اللذين يعانيان من متلازمة العش الفارغ يواجهان إحساساً عميقًاً بالحرمان، مما قد يجعلهما عرضة للاكتئاب وإدمان الكحوليات وأزمة الهوية والخلافات الزوجية.
ومع ذلك، فتبين الدراسات الحديثة أن متلازمة البيت الفارغ قد تقلل من الخلافات التي تنشب في العمل وبين العائلة، وقد تمد الأبوين بالعديد من الفوائد الأخرى أيضاً.
فعندما يترك الأولاد المنزل، تكون لدى الأبوين فرصة جديدة للتواصل مجدداً مع بعضهما البعض وتحسين نوعية زواجهما وإعادة إحياء الاهتمامات التي لم يكن لديهما وقت لها في السابق.
وعن أسباب متلازمة العش الفارغ:
يمكن تلخيص أسباب متلازمة العش الفارغ فيما يلي:

– علاقة الحب والاحتواء القوية التي تربط الآباء بأبنائهم، فالحياة في محيط مفعم بالسلام والمودة يجعل غياب أحد الطرفين عن الآخر في غاية الصعوبة ولا يحتمل.
وفاة أحد الزوجين الذي يترك فراغاً كبيراً في قلب وحياة الآخر، ويجعله غير قادر على التكيف مع الفقد، واختباره مجدداً ولو في شكل غياب.
– العلاقات الزوجية المضطربة كالطلاق، والطلاق العاطفي الذي يجعل أحد الزوجين يعوّض الفقر العاطفي في أبنائه، فيحدث التعلق كعملية تحويل كاملة إلى الأبناء، الأمر الذي يجعل استقلالهم بمثابة انسحاب من العلاقة، وتترتب عنه أزمات نفسية للأب أو الأم.
– وصول الأم إلى سنّ اليأس وما يرافقه من تغيرات نفسية.
– الخوف من فقدان السند.
– انعدام السند الاجتماعي من أطراف أخرى كالأقارب، مما يفتح الطريق نحو المشاكل النفسية التي يصعب فيما بعد التغلب عليها.
– التقاعد والتركيز على الأزمات العاطفية التي ترافقه، حيث يصبح الفرد هشاً وغير قادر على تحمل المزيد من المعاناة، خاصة وأن مرحلة التقاعد عادة ما تمهد للشيخوخة وما يصاحبها من مشاعر قلق الموت.
– عدم وجود نشاطات تشغل الآباء عن التفكير في أبنائهم الغائبين، فتشتّت انتباههم لذلك الفراغ، وتعوضهم عن الحرمان النفسي.
– عدم تهيئة الأبناء لتحمل المسؤولية سواء كانت زوجية، أو مسؤولية الرعاية الذاتية بالنسبة للأبناء الذين انفصلوا عن البيت الأبوي لاستكمال متطلبات دراسية أو العمل، ما يجعل الآباء في حيرة وقلق دائم عليهم وحزن مستمر بسبب الشعور بالذنب.
– عدم اهتمام الأبناء بآبائهم من خلال تفقدهم، والتعبير عن اشتياقهم المتبادل، ما يجعل الآباء يقرؤون هذا السلوك كنوع من الجفاء والنكران.
– نقل الأبناء مشاكلهم الشخصية لآبائهم باستمرار منذ أول انفصال لهم عن البيت الأبوي، الأمر الذي يجعل كلّا من الأم والأب في قلق دائم.
والسؤال هنا الآن كيف أستطيع أن أتكيف مع متلازمة العش الفارغ؟
إذا كنت تواجه الشعور بالوحدة بسبب متلازمة العش الفارغ، فاتخذ الإجراء الملائم للتغلب على ذلك على سبيل المثال:
لنجرب التعايش مع الوقت: تجنب مقارنة الجدول الزمني لأولادك مع المواقف التي تعرضوا لها أو توقعاتك تجاهه، وعوضاً عن ذلك، ركّز على ما يمكنك فعله لمساعدتهم في أن يكونوا ناجحين.
شاركهم مشاعرك: تحدث مع أولادك عن كمية المشاعر التي تختال قلبك، عبر عنها ودعها تأخذ حيزها من الشعور.
كن إيجابياً دائماً: إن التفكير في الوقت والطاقة الإضافيين اللذين ربما تكرسهما للاهتمامات الزوجية أو الشخصية بعدما يغادر أولادك المنزل قد يساعدك على التكيف مع هذا التغير الكبير في الحياة.
هل يمكنني تجنب متلازمة العش الفارغ؟
إذا كان ابنك الأخير على وشك مغادرة المنزل وكنت قلقاً من الإصابة بمتلازمة العش الفارغ، فضع الخطط قبل حدوث الأمر، ابحث عن فرص جديدة في حياتك الشخصية والمهنية. ويمكن للانشغال الدائم أو خوض تحديات جديدة في العمل أو المنزل مساعدتك في تخفيف الشعور بالفقدان الذي قد يخلفه فراق ابنك.
وفي النهاية لكل منا طريق خاص به وحياة يرسمها بأحلامه ولا شيء يستديم في الحياة، لأن محورها يكون في التغيير، لذا كان من الأسلم لراحتنا النفسية تقبل تغيرات الحياة بحب وسلام وعقلانية وهدوء وتماشي معها وليس عكسها أو ضدها.

#سفيربرس ـ بقلم الدكتورة: غالية اسعيّد.