إعلان
إعلان

رياض خليل : لن أختم القصيدة لأنَّها مشرعةً كالريح كالفضاء..

#سفيربرس _ تحقيق : ماجدة البدر

إعلان

 خليل : لغتي طيورٌ تقرعُ الأبواب..

يعدُّ الشعر روح أمة ووجدانها وذاكرتها، أضاء الشعر يوماً من الأيام سماءها شمساً مشرقةً، امتد شعاعها وضياؤها أصقاع الدنيا، ومن هنا يُغفل دور الشعر وما يفعله في نفوسنا، هو روح تؤلف بين العقل والوجدان، ومؤرخٌ حقيقيٌّ للتراث الأخلاقي والفكري، ومرآة لضمير وروح الآخر، وانعكاسٌ لثقافة مجتمع، يؤدي دوره التعبيري الخاص الراقي والمكثف والمصقول، أما القصيدة ، فهي تلك المرأة الجميلة، التي تستنفر حواس الآخر، وتثيره، وتغويه، وتغريه باللحاق بها وقراءتها كلمة كلمة، وجملة جملة، وسلاحها العاطفة الصادقة للتغلغل في قلب المتلقي، فينشدُّ إليها بروحه وقلبه فتفنتح أشرعتها على إبحار ليس بعده رسو..
ومن خلال عملي، وقع بين يدي مجموعة شعرية بعنوان: (طائر الكلمات) للشاعر رياض خليل، الصادرة سنة 1994، وكانت لي رحلة قصيرة وممتعة بين سطورها وقصائدها..
في البداية نتساءل من هو الشاعر رياض خليل؟!..
ولد الشاعر رياض خليل في محافظة اللاذقية عروس الساحل السوري، أرض الخير والعطاء عام 1948، وكان لطبيعتها الساحرة، وأرضها المعطاءة الخيرة الأثر الكبير في نفسه حيث تفتحت موهبته الشعرية، درس الحقوق في جامعة دمشق، وتخرج منها، وبقي حبه للشعر والأدب يدفعه للمضي قدماً في طريق الإبداع، أصدر العديد من الدواوين الشعرية: (الفراشة، 1978، بوابة الضوء، 1994، الكرنفال، 1994).. وله العديد من المجموعات القصصية: (الريح تقرع الباب، 1976، القرش والأسماك، 1995).
(طائر الكلمات)، مجموعة من القصائد القصيرة والطويلة والمتنوعة القوافي تنوعت قصائد الديوان بين (التفعيلة، والنثرية)، لخص الشاعر من خلالها نظرته للحياة والإنسان، وكانت قصائده صورة عن نقاء الروح وبهاء الجسد الإنساني في تحولاته وهواجسه وأفكاره، استطاع من خلال كلماته العذبة سبر أغوار وأعماق النفس البشرية، تحلق الكلمات في شعره، فيطلقها حروفاً جميلة تتشكل من خلالها القصيدة :
أنا طائرُ الكلمات أطلقها حروفاً كالشرر
فيضوعُ منها الضوءُ، يجلو الصمتَ يمحو الليل..
يدخل في خلايا الأرض في جسد الصخور
ويطلق النبض.. المشاعر في الحجرْ..
أنا شاعرٌ .. صوتي قويٌّ هادرٌ..
يعزف كالوترْ..
**
يرى الشاعر الخليل القصيدة روحٌ محلقة، بحاجة لمن يتغلغل فيها ويكشف أسرارها وبواطنها، بحرٌ عميق، يحتاجُ إلى غواص ماهر يعرف مواطن كنوزه، وبواطنه، ويستخرج لآلئه.. وسيلته اللغة (أنا شاعرٌ، لغتي خضمٌ زاخرٌ، لغتي ذراعٌ ، لغتي شاعٌ، لغتي طيورٌ تقرع الأبواب.. أحلق أبدع الأشياء أنطقها)..
هو شاعر امتلك الموهبة واللغة متمكن من أدواته الفنية، ومتمرس في الإبداع، والقصيدة هي الوسيلة الوحيدة التي يحلق فيها فتتحول الأشياء إلى شيء جميل، ينطقها ويعري وجهها، فتشع القصيدة، وتلمع حروفها كالدرر…
ضمَّ الديوان مجموعة من القصائد:
(طائر الكلمات، مدارات التحول، رحلة الظل والتراب، مشاهد الجسد، قصائد قصيرة (1 -2)، السؤال، أضعتك لحظة مني، أيها العندليب، خاتمة: قرار).
**
تجتمع في قصائده، ثنائية (الأنا والآخر)، وتتحول النفس إلى نسمة، تتسلل عبر الشقوق والمسامات، ولكنها تخرج مثقلة بالسموم، التي توزعها في خضم الفضاء، وتتلاشى.. وتتشتت ذراتها .. وتموتْ، لتولد من جديد.. ماء يتسلل عبر مسامات الأرض، والصخر، ليعود حياةً من جديد في نسغ الزهور والأشجار، تحلق القصيدة كطائر في فضاء حر وتهبط ثانية.. تزاول طقوس التحول، وتبدل وجهها وجلدها وصوتها ولونها.. ترحل ثم تعود ثانيةً.. إنها الخير والعطاء.. فهي تبني من الرمل صرحاً.. وتخضرُّ في الحطب الميت، وتزرع في كل حبة رمل حياة..
أستخرج المستحيل وأمنح ما شئت مما حملتُ
وأبني، أحللُ، ثم أركّبُ، أبني من الرمل صرحاً
وأخضر في الحطب الميت،
أزرعُ في كل حبةِ رملٍ حياةً
ونخلةً.. ثم أختفي.. أتحول، أرحل في دورة الفلك..
ينفصلُ الجسدُ عن الروح ويتحول إلى حصانٍ جامح، يهرب منها كمهرٍ، فتجري النفس وراءه، محاولةً أن تلجم اندفاعه، فتغريه بكل المغريات، وتحاول خداعه، ولكن الجسد يمضي في رحلة الحرية منطلقاً لا حدَّ لجموعه، فتنساق النفس لرغباته، وتمتطيه راضية مطمئنة.. وفي لحظة غفلة، يعاود الجسد الهروب إلى اللا نهاية..
نعود معاً
نستقرّ إلى ربعنا زمناً..
ثم في غفلةً فجأةً
أتفقده..
ثم أدرك
غافلني..
فرَّ ثانيةً نحو تلك البراري…
جسدُ الشاعر ، تواقٌ للحرية، يحاول الانعتاق من كافة القيود التي تحيط به، وحين يشتدُّ أوار القياد، نراه يتملص منه، ويهرب مندفعاً إلى اللا نهاية.
تتالى المشاهد في القصيدة، فالجسد والنفس كائنان منفصلان عن الآخر، يترافقان تارةً، ويفترقان تارة أخرى.. حتى إنَّه يغافل جسده في لحظة النوم أحياناً ويتسلل منه هارباً.. وهذه المرة تكون المطاردة العكسية:
(أفاق وقام، ولاحقني.. راح يركض خلفي.. كنت أسمع وقع حوافره.. كان يصهل.. يعدو ورائي كمهر .. تلك أنفاسه، أوشكت أن تلامس ظهري…. وأذعن يده تتلمس ظهري، ويسرجني، ويمارس بعض غواياته.. يمتطيني.. نعود معاً.. نستقرُّ لردح، ننام… وأغافله.. وأخلفه نائماً في فراشي وأهرب).. فهو في هذه الأبيات يقدم لنا صورة جميلة جداً يرسمها بكلمات معبرة، لطيفة سهلة، وفي النهاية، (تتحد الروح والجسد ) .. مشكلة صورةً جميلةً للنفس الإنسانية.. فهو كما يقول: (لسنا نطيق التخاصم، لسنا نطيق التصالح، نتنابذ حيناً، نتجاذب حيناً..)..وهي طبيعة النفس البشرية التي تعتمل في خلالها كافة المشاعر المتناقضة..
(الجسد، والنفس)، صورتان معبرتان عن (الأنا، والآخر)، وللطبيعة في سبر أعماق النفس البشرية الأثر الكبير في مفردات القصيدة، فهو يستعير جموحها، وهبوب عاصفتها، وقسوة صخورها، وتمايل سنابلها، وصوت بلابلها، وعصافيرها.. موظفاً إياها سفيراً لمشاعره..
(في جسدي متسعٌ للحب… لرقصة الخيول..
وتربة خصيبة.. لبذرة وغرسة وسنديانة وروضة للزهر
وبلسم للجرح وفرحة للقهر وشاطئ لموجة عابثة وعاشقة
مشرعةٌ في جسدي النوافذ والأبواب
لمثقل بالاغتراب لكل من ينحازُ للأشجار
والسنابل وللعصافير وللعنادل
في جسدي بحرٌ وبرٌ ومنطلقٌ ومستقرٌ
لكوكب ونجم للزنبق الأبيض والقرنفله.).
وتتحول الأشجار إلى روح شاعرة، تعزف وتغني وتلقي كلماتها من خلال اتحاد أوراقها وأغصانها مع نسمات عليلة منعشة، تعزف ما تعجز عنه الأوتار.. (وتقول الأشجار، ما لا تعرفه الكتب.. ولا الأسفار.. وتغني.. تعزف.. ما عجزت عنه الأوتار.. تصدحُ بالصمت.. وترقصُ باللون وتعلن عما دار..)
وللسؤال بعدٌ فلسفيٌّ آخر لدى الشاعر، فهو توأمٌ، ولد من قلب الشاعر، وانفصل عنه، كائناً له قراراته وحريته، أضاع كلٌّ منهما الدرب إلى الحقيقة:
(أيها السيد السؤال/ هل ترانا فقدنا الطريق؟..
هل ترانا…؟ نتقدمُ؟ أم ترانا نتقهقرُ في الرحلة الدائرة؟!
أم هو العجز في الذاكرة؟!.. أيها السيد السؤال..
توأمي ما تزال.. وسنبقى معاً كائناً واحداً..
إلى أن يحين الجواب.. )
ولا تغيبُ الحكمة ، عن نصوص المجموعة، استمدَّها الكاتب من حياة مرهقة، صعبة، فالنفس البشرية مشبعة بالمتناقضات، والمشاعر المضطرمة فيها، وللشاعر معاناة في السيطرة على جميع ردود أفعالها في التعامل مع الآخر..
(سافرْ ما شئت، هاجر.. وارحل.. لفَّ الدنيا.. لكنْ.. احفظ خط الرجعه)..
فلابدَّ للنفس البشرية أن تحنَّ إلى أصدقائها وماضيها، وتعود للالتقاء به مجدداً والاتحاد معه في روح واحدة..
*قصيدة (أيها العندليب)، وهو طائرٌ غريدٌ يشعر بالغربة بين الطيور، يحلُّ محله غراب يسرق صوته، وإبداعه.. الإحساس بالظلم، وصراع الخير والشر، مشاعر متناقضة اجتمعت في قصيدة جميلة، لخصت غربة تعتمل في قلب الشاعر، ومشاعر إنسانية متصارعة، فالعندليب حنجرته معطاءة مبدعة تغرد أجمل الألحان، بينما يتسلل الغراب إلى هذه الحنجرة والإبداع ويسرقها وينسبها إليه..
(أيها العندليب، أنت من صرت بين الطيور الغريب
وصار الغراب الحبيب.. بعد أن سرق الصوت
وانسلَّ مختبئاً فيه.. يفخر بين العصافير..
وانتحل الكلمات الحروف السطور)
مما يدفعه إلى النضال للدفاع عن بستانه وغابته، فهو ليس كالمتسلقين والمتملقين، ينتحلُ الشعر تقليعةً يتزينُ فيها.. وعلى العندليب أن يكمل رسالته.. ويقاتل من أجل تغريده ..
(أيها العندليب..
انطلق كالصباح الذي يمتطي الليل
وانشر جناحيك..
كي تملأ الأفق وبالكون شدواً )
أما أنت أيها الغراب، فالفشل سيكون نتيجة حتمية لما فعلت:
(أيهذا الغراب، إن من سرق الصوت.. لا يتمكن أن يسرق الحنجره..
والذي يملك الصوت.. ليس كمن يملك الحنجرة..)..

في هذه الأبيات يوجه الشاعررياض خليل رسالة إلى كل شاعر مبدع، لكي يستمرَّ بقطف الزهور والغناء والإبداع مهما واجهته المصاعب والآلام فعليه يتجاوزها وينتصر عليها وليس على العندليب أن يستسلم ويسلم حنجرته للغراب..
أيها العندليب.
سوف تسمعك الطير
تعرف صوتك رغم الغبار
ثم لابد أن تستجيب لشدوك
قدرٌ.. أن يتوج صوتك بين الطيور
وتصبح يوماً
أمير الغناء النجيب..).
يجسد الشاعر رياض خليل في شعره المعاناة ويرسمها بصورة جمالية، لتصل إلى القارئ، فلا يزهدُ فيها أو يملُّ منها، بل إنَّ المتلقي يستجيب للصوت الشعري، وينشدُّ إليه، كما يستحثه للمضي قدماً في التهام صفحات الديوان، وسبر أغواره، واستخراج كنوزه، والنتيجة الحتمية، هي الإقرار بإبداع الكاتب، وتمكنه من الناحية الشعرية الجمالية.
يقع الديوان في 80 صفحة من القطع الصغير، وهو من إصدارات اتحاد الكتاب العرب – سنة 1994.

#سفيربرس _ تحقيق : ماجدة البدر 

 

إعلان
إعلان

رئيس التحرير

محمود أحمد الجدوع: رئيس تحرير صحيفة سفير برس. صحيفة سورية إلكترونية، يديرها ويحررها فريق متطوع يضم نخبة من المثقفين العاملين في مجال الإعلام على مختلف أطيافه, وعلى امتداد مساحة الوطن العربي والعالم.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *