إعلان
إعلان

قراءة في المجموعة القصصية كسر متبدّل للأديبُ محمد سعيد حسين . بقلم : سمركلاس

#سفيربرس

إعلان

*كسر متبدّل صدر في عام 2018 عن  دار بعل للطباعة والنشر*

في أتونِ واقعٍ مؤلمٍ تعيشُهُ سوريّا، قدّمَ الأديبُ محمد سعيد حسين نصوصَهُ السّاخرةَ “كسر متبدّل “، عامَ ألفين وثمانيَة عشرَ 2٠١٨ من مئةٍ وخمسين 150 صفحةٍ، تزخرُ فيها قصصُهُ بالدّلالاتِ الحسّيةِ المباشرةِ، وتتوهّجُ صورُهُ بالحيويّةِ والمعاناةِ المبطّنةِ التي تحملُ عبقَ حبٍّ قديمٍ للأشياءِ حولَهُ.
لم يكنِ التّمرّدُ والتّوجّسُ ألاعيبَ شكلانيّةٍ، بل هما ذرتان من الضّوءِ تتغلغلان في أعماقِهِ ليستمرَّ الصّراعُ الدّاخليُّ ويحسمُهُ القلمُ برمزيّةٍ شديدةِ الخصوصيِةِ، تقعُ غالباً تحتَ إيقاعٍ صاخبٍ يلامسُ مناطقَ الدّهشةِ في الوجدانِ لاحتوائِهِ على ألفاظٍ ومعانٍ بعيدةٍ عن التّهويمِ. لهذا اختارَ الكاتبُ “الكوميديا السّوداءَ” في كتابةِ نصوصِهِ “كسر متبدّل” والتي تقتربُ أغلبُ صورِها من حدودِ رثاءِ ذاتٍ، وبكائيّةِ وطنٍ، حيثُ استخدمَ فيها الضّمير المتكلّمَ، لا ليشفيَ كرباً أصابَهُ وحسب، بل ويشفيَ كربَ جميعِ أفرادِ الوطنِ بالنّقيضِ، ويقدّمُها بقالبٍ ساخرٍ، ونقدٍ لاذعٍ ممتعٍ، في نسيجٍ سرديٍّ واقعيٍّ يعالجُ الأحداثَ والمشاهداتِ اليوميّةَ أكثرَ ممّا يعالجُ المتخيّلَ، بالرّغمِ من شكلِها الهازلِ إلاّ أنَّها ذاتُ وجهٍ مأساويٍّ ينطوي على فجيعةٍ مدهشةٍ إزاءَ لا معقولياتِ الشّرِّ والخديعةِ في هذا العالمِ. إنَّهُ بهذا يصلُ إلى قلبِ كلِّ قارئٍ ويعرّي أحزانَهُ. يبكي ويضحكُ من فرطِ ألمِهِ.
وربّما اتخذَ الكاتبُ هذا الأسلوبَ السّاخرَ كوسيلةٍ للعقابِ غيرِ المباشرِ لما يتلقّاهُ، بالإضافةِ إلى أنّهُ يعكسُ أوجاعَ المواطنِ عامةً، ويستنكرُ بخلطٍ مذهلٍ لما يقعُ بينَ الحقيقةِ والواقعِ، اليأسِ والرّجاءِ، الدّمعِ بالضّحكِ، المأساةِ بالملهاةِ. يصفعُنا بهذهِ المفارقاتِ اللامعقولةِ، فيحوّلُ الألمَ إلى بسمةٍ، والحزنَ إلى إبداعٍ، ويبثُّ الوعيَ في النّفوسِ، ويمنحُنا الشّجاعةَ لمواجهةِ مصائرِنا، فيكونُ لوقعِها إدهاشٌ وصدىً غريبٌ في النّفوسِ. ومنَ الجديرِ بالذّكرِ أنّ الكاتبَ يسعى أيضاً على ضرورةِ تقويمِ الأخلاقِ والتّحفيزِ لإعادةِ النّظرِ في علاقةِ الفردِ بمجتمعِهِ. وتعتبرُ السّخريّةُ في (كسرٍ متبدّلٍ) مُصحِّحاً اجتماعيٍاً يجتهدُ على توفيرِ العدالةِ الاجتماعيّةِ، والاستقرارِ الفكريِّ والاتجاهِ العاطفيِّ في المجتمعِ الواحدِ.
(كسرٌ متبدّلٌ) هذا العنوانُ بمثابةِ المفتاحِ والمدخلِ إلى كلِّ نصوصِهِ، يحملُ دلالتين، الأولى تحملُ معنى الكسرِ الحقيقيِّ المعنويِّ والماديِّ، كأنَّ الكسرَ موتٌ حقيقيٌّ، انفصالُ الرّوحِ عنِ الجسدِ معَ استمرارِ العملياتِ الحيويّةِ، لكنّهُ يدعو للتفكيرِ على إيجادِ وسيلةٍ لخلقِ حياةٍ أفضلَ في ظلِّ هذهِ الظّروفِ البائسةِ.
وأما الثّانيةَ موتٌ داخليٌّ يتبلّدُ فيهِ النّشاط ُالفكريُّ، بل ويتوقفُ دورَهُ نتيجةً لإحباطٍ قويٍّ من فرطِ التّهميشِ والعزلةِ والقهرِ الواقعِ والمتغيرِ، والمتعدّدِ بكلِّ أشكالِهِ في هذهِ الحياةِ. هكذا يدخلُ الكاتبُ إلى نصوصِهِ، ليميّزَ لنا أنواعَ الموتِ السّريريِّ، فمثلاً موتُ الأنا صلةُ الإنسانِ بالواقعِ. جاءَ في قصّةِ( اسم ثلاثيّ لمواطنٍ ثلاثيِّ الأبعادِ)، وهي بمثابةِ مقصٍّ، يقصُّ الحبلَ السّريَ الذي يربطُهُ بالبشرِ، والجذورِ، وبكلِّ معتقداتِهِ، تُسلّطُ السّخريةُ هنا الضّوءَ على طمسِ الهُويّةِ، والموتِ الخالصِ للأنا، ليس هذا فحسب بل ويجتهدُ في تبديلِهِ إلى جنسٍ آخرَ غيرِ عاقلٍ، وربّما إلى رقمٍ. استخدمَ القاصُّ اسمَهُ الثّلاثيّ محمد سعيد حسين في نصّهِ هذا ليؤكّدَ أنّهُ الضّميرُ المتكلّمُ، وكم من عصا وطياراتٍ وصفعاتٍ أخذَها لينطقَ اسمَهُ بشكلٍ صحيحٍ، حيثُ كانَ يلفظُ السّينَ، ثاءً محمد ثعيد حثين، وفي الإعداديّةِ تعلّمَ أنّهُ منَ الممكنِ أن يكونَ اسمَهُ فقط محمد سعيد، وهنا حوّلَ مدرّبُ الفتوّةِ اسمَهُ إلى “كرّ” وفي العسكريّةِ صارتِ العصا تأكلُ ما تيسّرَ لها من جسدِهِ، لأنّهُ نسيَ أن اسمَهُ ثلاثيّاً حيثُ اعتادَ على محمد سعيد، فحوّلَ المدرّبُ اسمَهُ إلى “ابن كلب” ومن نافذةِ هذا النّصِ يطلُّ علينا العنوانُ، كأنّهُ بلاغةُ لونٍ لشروقِ شمسٍ ساحرةٍ وممتعةٍ.
وفي قصةِ “الذي لم يكن يمزح” نتعرّفُ على نوعٍ آخرَ من الموتِ، حيثُ ينهي الشرطيُّ صلاحيتَهُ كأبٍ مربٍّ يفتقرُ إلى الوقارِ والاحترامِ والتّقديرِ. وهنا يأتيَ الموتُ بأبشعِ صورِهِ. إنّهُ موتٌ للحقائقِ بأكملِها، بالإضافةِ إلى كسرِ سلطةِ الأبِ القدوةِ والشّاهدِ على تاريخِنا العريقِ، وهذا هو الموتُ الأبشعُ، الذي يمتدُّ لينالَ من أجيالِنا القادمةِ!
وأما ” اللهم فاشهد” جاءتْ هذهِ القصةُ بقالبٍ مشحونٍ بالتّهكمِ والسّخريةِ، حيثُ جعلَها القاصُّ نزعةً لتوجيهِ ولفتِ انتباهِ المجتمعِ لهذا النّوعِ منَ النّاسِ، كما كشفَ عن بعضِ المفاسدِ الاجتماعيّةِ للقارئِ عن طريقِ محاكاةٍ تامّةٍ عديدةٍ تسودُها الصّراعاتُ المختلفةُ. وكم أبدعَ في وصفِ دواخلِ النّفسِ الإنسانيّةِ، وتسرّبَ إلى الطّبائعِ الخفيّةِ، ليستشّفَ ما بداخلِها، ويتغلغلَ في أعماقِها، ويكشفَ عن خفاياها وكلِّ أسرارِ الموروثِ فيها، ويظهرُها على شكلِ صدمةٍ، تتحوّلُ إلى يأسٍ محبطٍ يرتفعُ سدّاً بوجهِ كلِّ آمالِنا. ويلكزُكَ الصّدقُ والوجعُ في نصِّ “أزمةِ ثقةٍ بينَ الحكومةِ والحكومةِ”.
وأما عنِ الموضوعِ النفسيِّ بينَ الكاتبِ ووعيِ القارئِ وضرورةِ التّغييرِ، فقد حملَ نص “أنا وزوجتي والإبداع” الكثيرَ من قساوةِ الواقعِ فكانتْ سخريتُهُ سلاحاً للتعبيرِ عن خيبةِ الأملِ في الأزمةِ الثقافيّةِ التي تتفشّى في المجتمعِ، وقد تشكّلُ خطورةً لما فيها من قوّةِ تأثيرِ الجهلِ والمساسِ بعقولِنا. ويصبُّ الكاتبُ توجّسَهُ في نصّ “غُصّة في حلقي” على ما يدورُ في الواقعِ المؤلمِ من قراراتٍ خاطئةٍ تمسُّ المواطنَ ويوجهُ كلَّ غضبِهِ على تلكَ الفئةِ التي تواجهُ هذا البؤسَ بالدّعاءِ!
ثمّ يأتي في قصّةِ “اعترافات متأخرة لمدخنٍ مزمن” إلى أنّ الدّمَ الفاسدَ يسري في شرايينِ العلاقاتِ الاجتماعيّةِ قاسماً مشتركاً، وواقعاً حيّاً تعيشُهُ الأغلبيّةُ المهمّشةُ اجتماعياً وسياسياّ يسببُ ضيقَ تنفسٍ وانسدادَ الشريانِ التاجيِّ فقط لأنهم يعيشون في مكانٍ مغلقٍ مسمومٍ بهذا الدخان.

ويعتمدُ الكاتبُ في قصةِ “أزمة ثقة بين الحكومة والحكومة” على التلّاعب ِاللفظيِّ الذي يتمُ باختيارهِ للفكرةِ وإخراِجها بالإضافةِ إلى إيجادِ البديلِ ليحيلَ عليها التّهكّمَ والسّخريّةَ مثال: ” في حكومةٍ روتينياً توجدُ مؤسسةُ التأميناتِ الاجتماعيّةِ، ومؤسسةٌ تدعى وزارةُ الصّحةِ تتبعُ لها مؤسساتٌ صغيرةٌ تدعى المستشفياتُ الحكوميّةُ وقصةُ العلاقةِ بينَ التأميناتِ من جهة،ٍ والمستشفياتِ من جهةِ أخرى، وقهرِ المواطنِ بينهما”

كما وجّه القاصُّ سخريتَهُ للحبِّ نتيجةَ تجربةٍ شعوريّةٍ لكلِّ ما نتجَ عنِ الحبِّ الزائفِ في مجتمعِنا، والمتّهمُ الأكبرُ في ذلك “الأنا المتضخمة” عندَ المرأةِ ، تلكَ التي تنسبُ لنفسِها بطولاتٍ جوفاءَ. فوجّهَ لها نقداً لاذعاً على أنّها لا تصلحُ لحياتِهِ الاجتماعيّةِ، ومعَ ذلكَ فهوَ لا يزالُ يرى جماليةَ انتشارِ جنودٍ فتنتها وحصارها في الحربِ على الرجلِ.
ربما كانَ القاصُّ محمد سعيد أكثرَ درايةٍ باستثمارِ جدلِ البياضِ والسّوادِ في الحبِّ مما يجعلُ عبارتَهُ حبلى بالتوترِ والشحنِ والانفعاليةِ والزخمِ الداخلي.
على الرغمِ منَ الروحِ الطريفةِ واللغةِ الرائعةِ التي ميزتْ كلَّ قصصِ المجموعةِ تقريباً إلّا أنّ هذهِ القصصَ كانتِ الأقربَ إلى ذائقتي أكثرَ من غيرِها.

أخيراً نستطيعُ أنّ نقولَ: أنّ الألمَ وقسوةَ الواقعِ الذي يشعرُ بهِ الأديبُ وعدمَ قدرتِهِ على إلغاءِ أسبابِ هذا الألمِ هو الذي أفرزَ نقيضاً سلوكياً وجعلَ الكاتبَ يحملُ سخريتَهَ سلاحاً للتعبيرِ عن الظلمِ والقهرِ وغيابِ العدالة!

#سفيربرس _ بقلم : سمركلاس

إعلان
إعلان

رئيس التحرير

محمود أحمد الجدوع: رئيس تحرير صحيفة سفير برس. صحيفة سورية إلكترونية، يديرها ويحررها فريق متطوع يضم نخبة من المثقفين العاملين في مجال الإعلام على مختلف أطيافه, وعلى امتداد مساحة الوطن العربي والعالم.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *